ومنها ما لا يعلم إلا بالأدلة السمعية، وذلك كتفاصيل الأمور الإلهية وتفاصيل العبادات، وذلك إنما يكون بطريق خبر الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- المجرد.
ومنها ما يعلم بالسمع والعقل، وذلك مثل كون رؤية الله ممكنة أو ممتنعة.
جـ- أن ما جاء به السمع لا يخلو من أمرين (12):
إما أن يدركه العقل، فلا بد والحالة كذلك أن يحكم بجوازه وصحته، وإما ألا يدركه العقل فيعجز عن الحكم عليه بنفي أو إثبات، فيبقى العقل حائرًا، والواجب عليه والحالة كذلك التسليم لما جاء به السمع.
د- أن ما يدركه العقل لا يخلو من أمرين (13):
إما أن يثبته السمع ويدل عليه، وإما أن يأذن فيه ويسكت عنه، وبذلك يعلم أن السمع والعقل لا يتعارضان أبدًا.
http://www.islamtoday.net/baner/murtadah2.jpg مكانة العقل عند أهل السنة:
للعقل عند أهل السنة مكانته اللائقة به، وهم في ذلك وسط بين طرفين (14).
الطرف الأول: من جعل العقل أصلاً كليًا أوليًا، يستغني بنفسه عن الشرع.
الطرف الثاني: من أعرض عن العقل، وذمه وعابه، وخالف صريحه، وقدح في الدلائل العقلية مطلقًا.
والوسط في ذلك:
أ- أن العقل شرط في معرفة العلوم، وكمال وصلاح الأعمال، لذلك كان سلامة العقل شرطًا في التكليف فالأحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة، والأقوال المخالفة للعقل باطلة، وقد أمر الله باستماع القرآن وتدبره بالعقول "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ" [النساء: 82]، و [محمد: 24]، "أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ" [المؤمنون: 68]. فالعقل هو المدرك لحجة الله على خلقه (15).
ب- أن العقل لا يستقل بنفسه، بل هو محتاج إلى الشرع الذي عرفناه ما لم يكن لعقولنا سبيل إلى استقلالها بإدراكه أبدًا، إذ العقل غريزة في النفس وقوة فيها بمنزلة قوة البصر التي في العين، فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار.
وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها (16).
جـ- أن العقل مصدق للشرع في كل ما أخبر به دال على صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- دلالة عامة مطلقة، فالعقل مع الشرع كالعامي مع المفتي، فإن العامي إذا علم عين المفتي ودل غيره عليه وبين له أنه عالم مفتٍ، ثم اختلف العامي الدال والمفتي، وجب على المستفتي أن يقدم قول المفتي، فإذا قال له العامي: أنا الأصل في علمك بأنه مفتٍ فإذا قدمت قوله على قولي عند التعارض، قدحت في الأصل الذي به علمت أنه مفتٍ، قال له المستفتي: أنت لما شهدت بأنه مفتٍ ودللت على ذلك، شهدت بوجوب تقليده دون تقليدك، وموافقتي لك في قولك إنه مفتٍ، لا يستلزم أن أوافقك في جميع أقوالك، وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك، لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفتٍ.
هذا مع أن المفتي يجوز عليه الخطأ، أما الرسول -صلى الله عليه وسلم- فإنه معصوم في خبره عن الله تعالى لا يجوز عليه الخطأ، فتقديم قول المعصوم على ما يخالفه من استدلال عقلي، أولى من تقديم العامي قول المفتي على قول الذي يخالفه.
وإذا كان الأمر كذلك فإذا علم الإنسان بالعقل أن هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعلم أنه أخبر بشيء ووجد في عقله ما ينازعه في خبره، كان عقله يوجب عليه أن يسلم موارد النزاع إلى من هو أعلم به منه (17).
د- أن الشرع دل على الأدلة العقلية وبينها ونبه عليها (18).
وذلك كالأمثال المضروبة التي يذكرها الله في كتابه، التي قال فيها: "وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ" [الروم: 58]، فإن الأمثال المضروبة هي الأقيسة العقلية، فمن ذلك إثبات التوحيد بقوله تعالى: "هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ" [لقمان: 11]، وإثبات النبوة بقوله تعالى: "قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ" [يونس: 16]، وإثبات البعث بقوله تعالى: "قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ" [يس: 79].
والناس في الأدلة العقلية التي بينها القرآن وأرشد إليها الرسول -صلى الله عليه وسلم- على طرفين (19):
فمنهم من يذهل عن هذه الأدلة ويقدح في الأدلة العقلية مطلقًا؛ لأنه قد صار في ذهنه أنها هي الكلام المبتدع الذي أحدثه المتكلمون.
¥