العلم والأدب صنوان لا يفترقان بل أقول: ينبغي ألا يفترقا لأن جمال العلم أدب جم يزين صاحبه، ويدفعه للمعالي، ويبعده عن السفاسف، وعميق العلم لا يحتاج إلى لجاج في إثبات دعواه ولا تشنج في الرد على خصمه، وعفة اللسان منقبة كبيرة من وفق إليها فقد وفق للصواب، وكان حريا بالأثر العظيم في نشر علمه وفقهه ومنهجه، وقد يحرم العالم من نضر علمه وإفادة الآخرين بسبب تقصيره في هذا المجال، ولذلك لما فقه الصحابة أدب الخلاف ومن بعدهم الأئمة العظام كان لذلك الأثر الفاعل في قبول الناس لقولهم والإفادة منه، وعلى ذلك سار أهل العلم والإيمان إلى يومنا هذا، ولله در النخبة والصفوة المميزة من علماء هذه الأمة كيف فقهوا العلم والأدب معا، وما أحسن وأبلغ منهج شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ذلك فله فيه القدم الراسخة والقمة السامقة، وعلى ذلك درج العلماء، يأخذ الخلف بمنهج السلف، وكان شيخنا - رحمه الله - من هؤلاء الأئمة الذين جمعوا بين العلم وأدبه، فكان لمنهجهم التميز الموفق والأثر العظيم، فكان الشيخ - رحمه الله - يسلك مسلك الحجة والدليل والبرهان الناصع مع عفة لسان وحسن أدب، لا سيما عند نقد المخالف، بل لعله أن يعتذر عن مخالفه، فانظر إليه - رحمه الله - عند إيراده القصة التي رمي فيها الآمدي بترك الصلاة فعمد إليه بعضهم، ووضع على رجله شيئا من الحبر فبقيت نحو يومين، فينبري الشيخ انبراء المنصف فيلتمس العذر له فيقول: (قد يبقى الحبر أياما على العضو مع تتابع الوضوء والغسل، وخاصة عضو من لا يرى التدليك فرضا في الطهارة بل يكتفي بإسالة الماء في غسله ووضوئه) ثم يختم القصة فيقول: (وعلى كل حال فالأصل البراءة حتى يثبت الناقل)
[ص: ز من المقدمة وترجمة الشيخ للآمدي رحمه الله]
الله اعتبر هذا هو المنهج المتميز الذي يتلألأ أدبا وأخلاقا، أين هو من منهج كثير من الناس الذين أغرقوا بتتبع السقطات وأولوا بتصيد العثرات، فسوء الظن طويتهم، والمبادرة بالاتهام مطيتهم، فالله المستعان.
وقد كان الشيخ - رحمه الله - في تعليقه على مواضع من الإحكام مترسما منهج الأدب، فكان يصحح الخطأ وينبه على الرأي المرجوح، فيقول مثلا: الصحيح كذا، أو فيه نظر.
ويبين الصواب، ولا يتهم أو يسيء الظن أو يعنف أو يقسو في العبارة، نعم قد يمسك المخالف من مأمنه، ويحتج عليه بنفس دعواه، ويتألم لمواضع التناقض عند من يخالفه، أو التعسف في استدلال، أو لي أعناق النصوص لخدمة مذهب، أو الإقناع برأي معين.
وهذا نموذج يثبت ذلك:
وهو أن الآمدي - رحمه الله - كثيرا ما يكرر أن مسائل الأصول قطعية، فيخالفه الشيخ رحمه الله، وأن مسائل الأصول فيها ما هو قطعي وفيها ما هو ظني، وقد تعقب الشيخ الآمدي - رحمه الله - في مواضع صرح الآمدي واعترف بأن بعض المسائل ظنية وأحيانا يتوقف، ولم يكن الشيخ - رحمه الله - في ذلك معنفا ولا متعسفا، بل يوقف القارئ بكل أدب على خطأ المؤلف وتناقضه في المسألة.
[انظر 2\ 71 - 80، 117 من الإحكام، وتعليق رقم 1، 2 منه]
ولعلي أختصر القول في ذلك بالإحالة إلى النماذج الحية في هذا المعلم المهم. [18]
وهكذا ينتهي الحديث عن هذا المعلم، وبانتهائه تنتهي المعالم العشرة الرئيسة في منهج الشيخ الأصولي رحمه الله.
وأعترف أنها خطوط عريضة، وملامح خاطفة بحاجة إلى التعمق والدراسة والاستقصاء.
وإني لأرى أن كل معلم منها بحاجة إلى بحث مستقل يتم من خلاله الشرح والبسط والاستقراء والتعليق والاستقصاء، لكن لعلي وفقت بجهد المقل لأن أرسم صورة مختصرة عن منهجه رحمه الله، وإني لأطالب بدراسة أراء الشيخ الأصولية ومنهجه العلمي بشكل موسع ومقارن؛ ليفيد منه الباحثون وطلاب العلم عامة والمتخصصون في علم الأصول خاصة، فهو بحر محيط - بلا مبالغة - جدير بإبحار المختصين للحصول على درره ولآلئه وأصدافه، عليه رحمة الله.
الخاتمة:
وبعد هذه الرحلة العلمية الممتعة التي عشنا فيها في رحاب منهج علم من علمائنا الأجلاء، ومشايخنا الفضلاء، هو سماحة العلامة الشيخ عبد الرزاق عفيفي، يحسن أن أورد بعض النتائج التي توصلت إليها من خلال البحث في معالم منهجه الأصولي رحمه الله.
¥