تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

على كَبَدٍ لم يبقَ إلا صميمُها

فإن الصَّبا ريحٌ إذا ما تَنَسَّمتْ

على نفس مهمومٍ تَجَلَّتْ همومُها (9).

فريح الصبا في نظر هذه المرأة، أشبه بدواء يبرئ النفس من همومها وأحزانها، إلى جانب دوره المنعش أيام الصيف.

ولريح الصبا النجدية نفحة يميزها النجدي عما سواها، فتفعل فعلها الساحر في نفسه، متذكراً فيها الربع وساكنيه، وما يتعلق بهما من أمور لا تحصى:

إذا دَرَجَتْ ريحُ الصبا وتنسَّمتْ

تَعَرَّفت من نجدٍ وساكِنهِ نشرا

فقرَّفَ قُرْحَ القلبِ بعد اندماله

وهيَّجَ دمعاً لا جموداً ولا نزرا (10).

وتأهب الدموع في عيون المغترب ـ كما يصرح الشطر الثاني من البيت الأخير ـ دليل على توهج روح النجدي، وسرعة استجابته لأي مثير يذكره بموطنه، أينما كان، ويتذكر معه عبق الهواء في نجد بشذا زهوره، وعبق نبته الطري:

وعن عُلُوِِيّاتِ الرياحِ إذا جرتْ

بريح الخُزامى هل تهبُّ على نجدِ؟

وعن أقحوان الرمل ماهو فاعلٌ

إذا هو أسرى ليلَةً بثرىً جَعْدِ؟

ومع عبق الخزامى والأقحوان هناك عبق العرار الذي غدا سمة من سمات نجد:

تمتَّعْ من شميمِ عرارِ نجد

فما بعدَ العشيةِ من عرارِ

وتبدو الصبا في كثير من الأحيان أشبه برسول يحمل معه أخبار الوطن/نجد ومن فيه، وتلويحات الأحبة، وعواطفهم، وصورهم النابضة بالحياة، وشيئاً من طلباتهم ورغباتهم:

هل الريحُ أو برقُ الغمامةِ مخبرٌ

ضمائرَ حاجٍ لا أطيقُ لها ذكْرا؟

ولهذا ترى النجدي يخاطب الصبا مستفسراً منها عن زمن مجيئها من نجد ليستشف منها آخر أخبار أحبته، وموطنه، وكأنها رسول إليه حقاً:

ألا يا صبا نجدٍ متى هجت من نجد

لقد زادني مسراكِ وجداً على وجدِ

و لشدة تأثر النجدي بالصبا شمل بعواطفه كل ريح يهب عليه نسيمها، وخاصة إذا كانت قادمة من نجد، أو من إحدى بقاعه، وربما يسهم البرق في تحديد الجهة، فيتظافر البرق مع الرياح في تأجيج العواطف:

أشاقتكَ البوارقُ والجنوبُ

ومن عَلْوَى الرياحُ لها هبوبُ

أتتكَ بنفحة من ريح نجد

تَضَوَّعُ، والعرار بها مشوبُ

حتى الرياح الهوج العاتية يجدها المغترب حبيبة إلى القلب، تهيج عواطفه، وتذكره بنفحات نجد، حتى وإن كان قد غادر بإرادته، كما يقول الحسين بن مطير:

بكرت عليَّ فهيَّجْتْ وَجدا

هوجُ الرياحِ وأذكرتْ نجدا

أتحن من شوقٍ إذا ذُكِرَتْ

نجدٌ، وأنتَ تركتَها عَمدا؟ (11).

إذا لابد من الحنين، وتهيج الأشجان كلما هبت الصبا، أو أي ريح، سواء أترك النجدي موطنه رغماً عنه أو بإرادته.

أنسنةُ الأمكنة:

ومن ملامح تعلق النجديين ببلادهم إضفاؤهم الملمح الإنساني على كثير من الأمكنة، وغيرها من الأشياء ومخاطبتها مخاطبة الإنسان للإنسان، وبثها ما يجول في النفس من أفكار، وهموم. ومن الأمثلة البارزة على ذلك أبيات قيس بن الملوح التي يحادث فيها جبل التوباذ كما يحادث الصديق صديقه الحميم، فيقول:

وأجهشتُ للتوباذِ حين رأيتُهُ

وكَبَّرَ للرحمنِ حين رآني

فأذريتُ دمعَ العينِ لما رأيتُهُ

ونادى بأعلى صوته فدعاني

فقلتُ له: أين الذين عهدتُهم

حواليك في أمن وخَفضِ زمانِ؟

فقال: مضوا واستودعوني بلادَهم

ومن ذا الذي يبقى على الحَدَثانِ؟

وإني لأبكي اليومَ من حذري غداً

فراقَكَ، والحَيانِ مُجتمعانِ

سِجالاً، وتَهتاناً، وَوَبْلاً، ودِيمةً

وسَحَّاً، وتَسْكَاباً، وتَنْهملانِ (12).

فجبل التوباذ هنا يُكبِّرُ فرحاً لرؤية قيس، ويناديه بأعلى صوته ليبثه ما لديه من أخبار، وحين يسأله قيس عن ساكني تلك الربوع يجيب التوباذ بأنهم قد رحلوا إلى أمكنة أخرى واستودعوه بلادهم، ثم يبوح التوباذ بحزنه خوفاً من أن يفارق صاحبه قيساً في الأيام المقبلة.

وبذلك لم يعد المكان، في نظر هؤلاء النجديين، مجرد مكان محايد، بل أصبح صديقاً حميماً يتمتع بصفات الإنسان، فيفرح، ويحزن، ويتحدث عن أفكاره، ويبوح بمشاعره، ولا يحدث هذا بمثل هذه الصورة الحميمة إلا نتيجة محبة عميقة، وألفة طويلة، وانسجام بين الإنسان وبين المكان يبلغ درجة الاتحاد، تجعل كل من يغترب مشدوداً إلى موطنه الذي يشكِّلُ المكمِّلَ لشخصيته.

التوجُّدُ على نجد:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير