حين يشتعل صدر النجدي بالحنين إلى موطنه ولا تسعفه الظروف بتكحيل عينيه برؤيته يبدأ بالتوجد على ربوع نجد وهوائها، ومافيها من منازل، وجبال، ومطارح متنوعة، وما تضم من نبات، وكائنات، وما يسكنها من أحبة، وهذا قيس بن الملوح، يتوجد على الأمكنة، وهواء البلاد، والناس الذين عاشرهم .... يقول:
ألا ليتَ شِعري عن عوارضتَيْ قناً
لطول الليالي هل تغيرتا بَعدي؟
وهل جارتانا بالبتيل إلى الحِمى
على عهدِنا أم لم تدوما على العهدِ؟
وعن عُلُوِيّاتِ الرياحِ إذا جَرَتْ
بريحِ الخُزامى هل تهبُّ على نجدِ؟
وعن أقحوان الرمل ماهو فاعلٌ
إذا هو أسرى ليلةً بثرىً جَعْدِ؟
وهل أنفضنَّ الدهرَ أفنانَ لِمَّتي
على لاحق المتنينِ مندلقِ الوَخْدِ؟
وهل أسمعنَّ الدهرَ أصواتَ هَجْمةٍ
تحدَّرُ من نشْزٍ خصيبٍ إلى وهدِ؟ (13).
فالشاعر في هذه الأبيات يتمنى أن يعرف ما حلَّ بتلك الأماكن التي يذكرها، ويتذكر ما كان فيها ويتساءل عن تغيرها بعده، ويتساءل عن جارتَيْه وما طرأ عليهما، وعن الرياح العابقة بريح الخزامى أما زالت تهب على نجد؟ ثم ما حدث للأقحوان في تلك الربوع بعد أن تكون قد اخْضَلَّتْ بماء الغيومِ؟ ثم يتمنى بصيغة السؤال أن يعود ثانية إلى تلك الربوع ويسمع أصوات الإِبل الكثيرة وهي تنتقل من مكان إلى آخر.
وفي أبيات الصِّمَّة القُشيري صورة واضحة لهذا التوجد على الوطن والأحبة، والحنين إلى ما مضى من سالف العهد:
حننتَ إلى ريَّا ونفسُكَ باعدتْ
مزارَكَ من ريَّا وشعباكما معا
فما حسنٌ أن تأتي الأمر طائعاً
وتَجْزَعْ أَنْ داعي الصبابة أسمعا
قِفا ودِّعا نجداً ومَنْ حَلَّ بالحِمى
وقلَّ لنجدٍ عندنا أن يُوَدَّعا
ولما رأيتَ البِِشْرَ أَعْرَضَ دوننا
وجالت بناتُ الشوقِ يحننَّ نُزَّعا
بكتْ عَيْنيَ اليُسْرَى فلما زَجْرتُها
عن الجهلِ بعدَ الحِلْمِ أَسبلتا معا
تلفَّتُّ نحو الحَيِّ حتى وجدتُني
وجِعتُ من الإِصغاءِ ليتاً وأخدَعا
وأذكرُ أيامَ الحِمى ثم أنثني
على كبدي من خشيةٍ أن تَصَدَّعا
وليست عشياتُ الحِمى برواجعٍ
إليكَ ولكنْ خَلِّ عينيكِ تدمعا
بنفسي تلك الأرض ما أطيب الرُّبا
وما أَحْسَنَ المُصطافَ والمُتَرَّبعا! (14).
فالقشيري هنا يقرُّ ببعد المزار، ويحاول أن يتغلب على الجزع بالصبر، ثم يتذكر يوم ودَّع نجداً ومن فيهِ، فقد ودع تلك الربوع الخصبة الحبيبة، التي قلما يودعها أحد، وعندما ابتعد عن منازل قومه، وأعرض جبل البِشْرِ يحجب ما خلفه من بلاد نجد جاشت نفس الشاعر حزناً على فراق وطنه وأحبته، ولم يستطع حبس دموعه، ولم يُجْدِهْ التلفت إلى جهة الحي، فقد أزف الفراق.
ويعترف الشاعر بأنه حين يتذكر أيام الحمى بين صحبه وأحبته يفتك به الحزن والجزع، فيسند كبدَهُ بيدهِ كي لا تتمزع ألماً، ثم يتوجد الشاعر على عشيات الحمى التي يقرُّ بأنها لن تعود، ومادام الأمر كذلك فلتدمع العيون كلما جاشت النفس.
وعلى رغم البعد والجزع يظل الصمة متعلقاً بوطنه، متشبثاً بكل معالمه، وبذكرياته فيه، فَيُفدِّي بنفسه تلك الربوع الطيبة ورباها ومنازلها في صيفها وشتائها.
وما أكثر من يدعو لها بالسقيا لتبقى مخضلة في الواقع مثلما هي مخضلة في الوجدان.
الدعاء بالسقيا:
ما الدعاء بالسقيا إلا دعاء بتجدد الحياة، وازدهارها، وإطالة أمدها، ومن ثم سلامتها من أي ضر، وهو لهذا من أحب الأدعية، وألطفها وقعاً في نفس العربي الذي كثيراً ماعانى من شح الماء، وقلة الخضرة في صحاريه، وبواديه، وفقد كثيراً من إبله ومواشيه، وأطفالهِ جراء ذلك.
ولهذا نراه يتوجه بهذا الدعاء الندي إلى أحب الأمكنة إليه، وأسعد الأيام التي عاشها.
وفي أبيات ابن عمارة السلمي صورة لهذا الدعاء الحميم، حيث يذكر نجداً، ثم يتفقد أمكنة بعينها متمنياً أن تنهلَّ عليها شآبيب الغيث المصحوب بالرعد المتتابع الذي يعني وفرة الماء المنهمر، وما ينتج عنه من ربيع، وخصب:
سَقَى مَأْزَمَيْ نجدٍ إلى بئرِ خالدٍ
فوادي نِصاعٍ، فالقُرونِ إلى عَمْدِ
وجادتْ بروقُ الرائحاتِ بِمُزْنةٍ
تسحُّ شآبيباً بمرتَجزِ الرَّعْدِ
منازلَ هندٍ إذ تواصلُني بها
لياليَ تسبيني بمستطرَفِ الوُدِّ (15).
¥