تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

{6} يفعل البارودي ذلك، قويًّا مفاخرًا؛ فمن القمة التي يقف عليها يرسل بصره إلى المدى، فتتجلى له قمم الشعر الباذخة، فيناصيها، ويباريها، ثقة منه بمقدرته، وإجلالاً لما يعارضه وتعلقًا به، وخوضًا في هذه الظاهرة الإبداعية، وانتصاحًا بنصيحة علماء الشعر، وإدلالاً على معاصريه وفوتًا لهم بمقدرته، وتزييفًا للقول باستفراغ السابقين وُسْع الإبداع، ورغبة في سبق السابقين إلى مجاهل خَفِيَتْ عليهم (16)؛ فلذلك كان "الفضل الذي له على عصره، أكبر من الفضل الذي لعصره عليه، فما جاء به من عند نفسه كثير لا يقاس إليه ما يجيء من قدرة معاصريه، وذلك وحده خليق أن يُبوِّئه زعامة جيله ويقدمه إلى طليعة معاصريه وتابعيه" (17).

قومية المعارضة

{7} كانت المعارضة نمطًا من إبداع الشعر، عربيًّا خالصًا (18)، مِسَنًّا أزليًّا جلا عن صفحة العروبة حين أوشكت تعفو وتستعجم، ثورة أدبية، واكب بها البارودي مثلا، ثورة أحمد عرابي الحربية، فخابت هذه، ونجحت تلك؛ فاستقامت بها عروبة مصر (19)، ومَحْفِلاً أفشى به شوقي محاسن العربية؛ بذل حُلاها، ونشر حُللها، مُدِلاًّ بثرائها، مُغريًا بالاغتراف منه والاستغناء به (20).

{8} وستبقى المعارضة، إلى ذلك كله، مِزْجرًا أبديًّا للحَقَدة الذين يدّعون مرة أن وحدة الأدب العربي كوحدة الثقافة العربية، وَهْمٌ (21)، ويستبشعون أخرى صلابة الثقافة العربية التي تمنع الأمة أن تقبل الفرد الحر الذي يؤمن بما يشاء ويعبر كما يشاء، فتُثَبِّت الأشكال الشعرية العربية، وتكسوها طابعًا دينيًّا، وتسند إليها وظيفة الهُويّة (22)، مِزْجرًا أبديًّا لهم بأن هذه الأمة التي تقبل الفرد الحر الذي يؤمن بما يشاء ويعبر كما يشاء، وَهْم! - وللجهلة الذين يساعدون الحقدة، بالسخرية من "المخطط التقليدي للأداء" الذي يلائم "مية، المواطنة السمراء في صحراء نجد"، ولا يلائم "جانين، المواطنة الفرنسية القاطنة في الرقم 73 بولفار سان ميشيل"، التي إن وضعناها موضع مية معارضين مطلع دالية النابغة، فقلنا:

يا دار (جانين) بالعلياء فالسند أقوت وطال عليها سالف الأبد

"أغْمي عليها" (23)، مزجرًا أبديًّا لهم بأننا إنما نقول ذلك لمية السمراء، لا لجانين الزرقاء ‍‍!

{9} ولن تفسد المعارضة على الشعر العربي الحديث" طزاجة العصرية "المزعومة (24)، كما يفسده ما في استعمالنا لمصطلحي "التجديد"، و"الحداثة"، من قبول لشيء من الضياع، وما في نسياننا لما في مصطلحي "المحافظة" و"القَدامة"، من مجاهدة لذلك الضياع (25)، ولا كما يفسده تقليد نمط من الشعر الغربي، غريب عن ثقافتنا، بعيد هو نفسه عن العصرية (26) - بل تظل منجاة مِسَنًّا: يمتنع بها الشاعر من الغرق بطوفان الضياع إذا طمّ وعمّ، ويسن بها سنان آلته إذا تَثَلّم (27).

{10} ولاسيما أن نرى الشاعر بالمعارضة مبدعًا ُمحلّقًا فيما انْفَسَح له من آفاق: هذا البارودي رغم ترديده بعض معانى ما عارضه وتقليده لبداءته، يتصرف في مراحل أغراضه، ويعرض عن غير المرضي منها؛ "فلم يتعلق قط بأذيال القصائد التي كان يعارضها، ولم تطغ على شخصيته، أو تخف معالم شاعريته، وإنما استطاع أن يملك رقابها فيفيد منها ويتحكم في توجيهها" (28)، وهذا شوقي رغم ترديده مما عارضه، بعض كلمات القافية والتراكيب، يتصرف في المعاني، والصور، وأسلوب المقابلة، بحيث حصل له "مشهد تكميلي، ينبني على أصل، لكن لا يتقيد به، ويتبنى بعض ما فيه، دون أن يقصر في مزيد إثرائه. فيصح لنا أن نعتبر المعارضة عند شوقي (قراءة جديدة) للتراث" (29).

تخاميس

{11} ومن شجون المعارضة التَّخْميس؛ إذ هو من مبالغة الخالف في إجلال السالف، وفيه يأتي إلى قصيدته، فيفكُّ أبياتها بعضها من بعض، ويصطنع لكل بيت ثلاثة أشطر من وزن صَدْره وقافيته، يضيفها قبله ليأتي هو بعدها ملكًا في حاشيته مُبَجَّلاً!

لقد أجلّ أبيات أبي الفرج الساوي التي منها:

هي الدنيا تقول لساكنيها (أ) حذار حذار من بطشي وفتكي (ب)

فلا يغرركم مني ابتسام (ج) فقولي مضحك والفعل مبك (ب)

فبَجَّلَها قائلا - على ركاكته -:

دع الدنيا الدنية معْ بنيها (أ)

وطلقها الثلاث وكن نبيها (أ)

ألم ينبيك ما قد قيل فيها (أ)

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير