{5} تتناول الموازنة أجزاء أطرافها كلها حين تكون من الانحصار والاقتصار بحيث تمكنها من ذلك، كأن تكون قصيدتين أو ثلاثا، فأما إذا كانت أطرافها دواوين كاملة، كحالها معي هنا، فينبغي للباحث أن يختار للمقارنة العناصر التي تقفه على مواطن تميز أطرافها، معتمدا في هذا على الظن الغالب، ومستعينا بما سبقه من دراسات (15).
لقد اخترت لموازنة شعر أولئك الشعراء بعضه ببعض، القافية وكلمتها، قاصدا بالقافية آخر ساكنين في البيت مع ما بينهما من متحركات متى كانت، ومع المتحرك الذي قبلهما (16) - إنها إذن مجموعة من الأصوات المجردة في آخر البيت، ربما كانت تفعيلته الأخيرة، أو أكثر، أو جزءا منها - وقاصدا بكلمة القافية ما قام من عناصر الجملة بأداء تلك القافية. إنها إذن مجموعة من الأصوات الحية، لا تحديد لموقعها من الجملة، وربما كانت كلمة واحدة منها، أو أكثر، أو جزءا من كلمة. ومن ثم يبدو إطلاق مصطلح (كلمة) على كل حال من تلك الأحوال، توسعا، وهو من أعراف العروضيين (17).
{6} قال المعري على لسان الحصان للبغل: " أَمّا دَعْواكَ نِظامَ الشِّعْرِ، فَخَلَّةٌ لا تُفْتَقَدُ مَعَها زَلَّةٌ. إِذا جاءَ الرَّويُّ فُضِحَ الْغَويُّ. وَلَوْ قيلَ إِنَّ الْقافِيَةَ سُمِّيَتْ قافِيَةً لِأَنَّها تَقْفو الْجاهِلَ بِها أَيْ تَعيبُه، لَكانَ ذلِكَ مَذْهَبًا مِنَ الْقَوْلِ. وَالْقَريضُ مُشابِهٌ أُمَّ أَدْراصٍ، وَمَنْ سَلَكَها غَيْرَ خَبيرٍ، فَكَأَنَّما سَقَطَ مِنْ ثَبيرٍ " (18).
ولكل ساقطة لاقطة: شاعر خصم لا يرحم، أو عالم ناقد لا يكتم! وإنما كان للقافية وكلمتها صفة المهوى أي المكان الذي يسقط منه فتندق عنقه من لا علم له به، بأمرين:
أولهما: بروز هذا الموضع من البيت وجملته، للشاعر والناقد جميعا، فأما الشاعر الواعي فإنه يختار له أبرز عناصر جانبي قصيدته العروضي واللغوي تأثيرا في توصيل رسالتها، وأما الناقد الواعي فإنه يراعي ذلك في ذوقه للقصيدة.
والآخر: توحيد قوافي أبيات القصيدة الواحدة، فتكرار مجموعة من الأصوات كلما جاء هذا الموضع من البيت وجملته، يزيده خصوصية تستولي على الانتباه، بما يجتمع فيه من عناصر " مختلفة في ذاتها متشابهة في مواقعها ومواضعها من العمل، بغية التسوية بين ما ليس بمتساو، أو بهدف الكشف عن الوحدة من خلال التنوع، وقد تعني تكرار المتشابه بغية الكشف عن الحد الأدنى لهذا التشابه، أو حتى إبراز التنوع من خلال الوحدة " (19).
إنه يغري الناظر في القصيدة بملاحظته قبل غيره، ليوازن بين (كلمات القافية) التي كان توحيد القافية سبب اشتباهها صوتا، في حين أن كلا منها في واد (20). ولقد كان من فطنة بعض كبار الأسلوبيين العرب في زماننا هذا، لكون هذا الموضع من البيت وجملته مجتمع أبرز مميزات الشعر العربي، أنه صار كلما استعصت عليه العلل والأحكام يحتكم إليه وإلى خصائصه (21).
{7} ولا يقل عن ذلك كله إغراء باختيار القافية وكلمتها، انحصار هذا الموضع بحيث يمكنني التمهيد للنظر فيه بالإحصاء. لقد رضيت منذ زمان، جدوى اعتماد الإحصاء، وصرت كلما مضيت في طريقي أزداد به رضا ونفرة ممن يلقي الأحكام غفلا منه. ولست في ذلك بمنبتٍّ من طريقة علمائنا القدماء؛ فما الاستيعاب الأولي الذي التزموه مدخلا إلى علومهم، إلا نمط منه تمسكوا به (22).
ولقد خرجت أبحاث زعمت اعتماد الإحصاء، نفر الباحثون منها وساء به ظنهم، والحق أن الذي زعموه عد لا إحصاء؛ إذ يقف عند حصر عنصر يغلب أن يكون اختياره تقليدا محضا أو خبط عشواء، فأما الإحصاء فيتجاوز ذلك إلى إعطاء " البيانات القابلة للتوظيف في مجال الكشف عن أدق خواص النص على المستويات التحليلية المختلفة كافة " (23) لينظر بها الباحث في إحكام عمله.
{8} وينبغي درء تهمة (الشكلانية) عن هذا النمط من الأبحاث بالتمسك بالشكل نفسه لا التبرؤ منه؛ إذ هو في الحقيقة مضمون محض؛ فالفكر والعبارة عنه شيء واحد (24)، أو هو على الأقل، القسم الفني من المضمون، الذي يعول عليه في تمييز الأساليب (25)، وكفى بتقديس الشكل دلالة على تعلقه بأصول التفكير (26).
¥