وهذا المعنى وإن كان يتفق مع المعنى الذي قصده الجمهور. لكنه يختلف عنه من حيث الدلالة فإن الآية على تقدير الجمهور: نزلت بحكمين مختلفين كل جزء منها نزل بحكم خاص منقطع الصلة عن الجزء الآخر، الجزء الأول نزل بحكمٍ للمقيم والصحيح، والجزء الآخر نزل بحكمٍ للمسافر والمريض. مع أن لفظ (من) في قوله تعالى {فَمَنْ شَهِدَ} يفيد العموم، و (شهد الشهر) بمعنى حضره أي أدركه، وكل حي موجود يدرك هذا الشهر لا فرق بين مقيم ومسافر وصحيح ومريض، فمن أين لهم قصر معنى (من) على بعض الأفراد وهم المقيمون دون غيرهم ممن أدرك الشهر.
ويمكن أن يعتذر لهم بأنهم لجأوا إلى هذا التقدير ليتفقوا مع ما قاله أهل اللغة في الآية، فقد جاء في لسان العرب: تعليقاً على الآية السابقة: "معناه: من شهد منكم المصر في الشهر -لا يكون إلا ذلك [16]- لأن الشهر يشهده كل حي فيه، قال الفراء: الشهر نصب بنزع الصفة ولم ينصب بوقوع الفعل عليه، المعنى: فمن شهد منك في الشهر أي كان حاضراً غير غائب في سفرة" [17] والتكلف هنا ظاهر.
أما على تقدير: بأن كل من شهد الشهر وجب عليه صومه إلا المسافر والمريض فقد رخص لهما في فطره، فهو متفق مع سياق المعنى في الآية، وربما يعترض على هذا التقدير: بالصبي والمجنون ونحوهما من غير المكلفين إذ هم يشهدون الشهر، ومع ذلك لا يجب عليهم صومه، فيجاب عن ذلك: بأن أمثال هؤلاء يخرجون من الوجوب بنصوص أخرى، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: "رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ" وغيره.
وعلى فرض أن الآية تحتمل التأويلين، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بين المراد منها بفعله في غزوة الفتح، إذ صام أول الشهر بالمدينة، وخرج منها صائماً حتى بلغ الكديد ثم أفطر، قال الزهري -في رواية أخرى لحديث ابن عباس السابق-: "فصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان" [18].
وفي حديث آخر عن أبي سعيد الخدري -ولعله في غزوة بدر- قال: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لست عشرة مضت من رمضان، فمنا من صام ومنا من أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم" [19].
وفعله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح -وكانت في العام الثامن من الهجرة- يعتبر من التشريعات المحكمة لما جاء في حديث ابن عباس السابق -في رواية ثالثة له-: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر، قال وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره" [20].
فهذه الأحاديث الواردة في محل النزاع تقطع كل احتمال يتوهمه البعض من الآية وترفع كل لبسة قد يحوم حول دلالتها على عموم الرخصة، سواء لمن شهد بداية الشهر مقيماً أو مسافراً فقد قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر/7)، وقال جل من قائل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل/44).
لذلك كان هذا هو الرأي المختار والله أعلم.
أما ما نقل عن علي رضي الله عنه من القول بوجوب إتمام الشهر صائماً فلعله كان اجتهاداً منه, ومعلوم أن النص الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً أقوى من اجتهاد الصحابي مهما كان قدره.
ومما يقوي أنه كان اجتهاداً منه، إشارته للآية بعد قوله بالوجوب مما يدل على أن ذلك كان استنباطاً منه للحكم من نص الآية. وقد قلنا: إن الآية وإن كان فيها احتمال لكن السنة قد رفعت عنها هذا الاحتمال.
أما ما نقل عن السيدة عائشة رضي الله عنها من كراهتها للسفر في رمضان، فلما في صومه من عظيم الثواب، وما في قيام ليله من المغفرة والرحمة فالمسافر وإن رخص له في الفطر، لكنه سيفوته ثواب الصيام في نفس الشهر، وسيفوته قيام ليله المؤدي للمغفرة والرحمة، مما ينبغي الحرص عليه.
وهذا في حق من كان يمكنه تأجيل سفره، أما من كان لا يمكنه، وكان التأجيل سيترتب عليه ضرر كبير على المسلم في أهله أو ماله، فليس هناك ما يمنعه، وما قلناه في حق علي رضي الله عنه، يقال فيما نقل عن عبيدة السلماني وغيره من التابعين رضي الله تعالى عنهم.
الدستور الأساسي
قال الفيلسوف (جيبون):
القرآن مسلم به من حدود الأقيانوس إلى نهر الفانك بأنه الدستور الأساسي. ليس لأصول الدين فحسب بل للأحكام الجنائية والمدنية والشرائع التي عليها مدار نظام المجتمع الإنساني وترتيب شؤونه.
>
=====================
الهوامش
[1] صحيح مسلم ج1 ص 145 دار التحرير- القاهرة.
[2] لسان العرب ج 8 ص 306 مصورة من طبعة بولاق. مادة رخص.
[3] لسان العرب ج 6 ص 31 مادة سفر.
[4] (والكن: الستر والوقاية، والخفض: الدعة والراحة والاطمئنان).
[5] صحيح مسلم ج 3 ص 145 دار التحرير. القاهرة.
[6] صحيح البخاري ج 11 ص 45 مع شرحه عمدة القاري. دار الفكر ببيرو.
والكديد: بفتح الكاف وكسر الدال الأولى: موضع بينه، وبين المدينة سبع مراحل أو نحوها وبينه وبين مكة نحو مرحلتين.
[7] المجموع ج 6 ص 216 - مطبعة المدني بالقاهرة.
[8] المجموع ج 6 ص 216.
[9] المصنف ج 4 ص 270 الطبعة الأولى. المكتب الإسلامي ببيروت.
[10] المصنف ج 4 ص 269.
[11] السنن الكبرى ج 4 ص 246 - دار الفكر.
[12] فتح الباري ج 5 ص 83 مطبعة مصطفى الحلبي.
[13] تقريب التهذيب ج 2 ص123، 266 دار المعرفة ببيروت.
[14] تقريب التهذيب ج 1 ص 505.
[15] تفسير فتح القدير للشوكاني ج1 ص182 درا المعرفة ببيروت.
[16] الإشارة إلى المعنى الذي قدره.
[17] لسان العرب ج4 ص227 مادة شهد.
[18] صحيح مسلم ج3 ص141 دار التحرير ـ القاهرة.
[19] صحيح مسلم ج3 ص142.
[20] مسلم ج3 ص140.
¥