على أني أرى أن النهي عن زيارة القبور غير منسوخ على الإطلاق. قال ابن القيم في الحاشية (9\ 44): «كان في أول الإسلام قد نُهِيَ عن زيارة القبور صيانةً لجانب التوحيد وقطعاً للتعلق بالأموات وسدّاً لذريعة الشرك، التي أصَّلَها تعظيم القبور وعبادتها كما قال ابن عباس. فلما تمكّن التوحيد من قلوبهم واضمحل الشرك واستقر الدين، أُذِنَ في زيارة يحصل بها مزيد الإيمان وتذكير ما خلق العبد له من دار البقاء. فأُذِنَ حينئذٍ فيها. فكان نهيه عنها للمصلحة، وإذنه فيها للمصلحة». فالصواب أن يكون النهي كذلك لقوم إسلامهم حديث أو يخشى عليهم تقليد القبوريين. فأما إن ترسّخ التوحيد في قلوبهم، فلا مانع من الزيارة.
أما الأضاحي فالنسخ فيها صحيح. فقد أخرج مسلم (1972) عن جابر (ر) قوله: «كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث منى. فأرخص لنا رسول الله (ص)، فقال "كلوا وتزودوا"».
2 - أن يصرح بذلك صحابي، لأن الصحابة يعلمون متى قيلت الأحاديث.
وقد مثلوا لهذا بما أخرجه أبو داود في سننه عن جابر: «كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما غيرت النار». لكن الصواب أن هذا الحديث لا علاقة له للنسخ. فقد أخرج أبو داود:
(#192) حدثنا إبراهيم بن الحسن الخثعمي حدثنا حجاج قال ابن جريج أخبرني محمد بن المنكدر قال سمعت جابر بن عبد الله يقول: قربت للنبي (صلى الله عليه وسلم) خبزاً ولحماً فأكل، ثم دعا بوضوء فتوضأ به، ثم صلى الظهر، ثم دعا بفضل طعامه فأكل، ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ. (#193) حدثنا موسى بن سهل أبو عمران الرملي حدثنا علي بن عياش حدثنا شعيب بن أبي حمزة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: كان آخر الأمرين من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ترك الوضوء مما غيّرت النّار.
قال أبو داود: «هذا اختصار من الحديث الأول». فدلّ ذلك على أنّ المقصود بـ "آخر الأمرين" يعني في تلك الواقعة بالتحديد، وأنّ جابراً لم يكن يتكلّم على نسخ هذا الحكم. وهذا الحديث من الأحاديث الثلاثة المنتقدة على شعيب بن أبي حمزة. وقد أنكره ابن أبي حاتم والدراقطني.
3 - أن يُعرَفَ ذلك بعلمِ تاريخ كل حديث. فالحديث الآخر هو الناسخ.
جاء في سنن أبي داود (2\ 308) عن شداد بن أوس (ر): أن رسول الله (ص) أتى على رجل بالبقيع وهو يحتجم وهو آخذ بيدي لثمان عشرة خلت من رمضان، فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم». وجاء في صحيح البخاري (2\ 685 #1836): عن ابن عباس (ر) أن: «النبي (ص) احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم».
قالوا: الثاني ناسخٌ للأول، فقد جاء في بعض طُرُقِ حديثِ شدّاد أن ذلك كان زمنَ الفتح في سنةِ ثمان، وأن الحديث الثاني كان في حجة الوداع في سنة عشر. قلت: وسيأتي الجواب عليه.
وفي الموطأ والسنن حديث الصحابية بسرة بنت صفوان: «من مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ». صحيح على شرط البخاري، و صححه الترمذي و الدارقطني و ابن معين و البيهقي و الحازمي و ابن حبان و الحاكم و عده السيوطي من الأحاديث المتواترة. وأخرج ابن حبان في صحيحه (3\ 401): عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): «إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه وليس بينهما ستر ولا حجاب، فليتوضأ».
وفي السنن حديث طلق بن علي قال: جاء رجل كأنه بدوي فقال: «يا نبي الله ما ترى في مس الرجل ذكره بعدما توضأ؟». قال: «و هل هو إلا مضغة منه أو قال بضعة منه؟». صححه علي بن المديني و الطحاوي و ابن حبان و الطبراني و ابن حزم. و ادعى فيه النسخ ابن حبان و الطبراني و ابن العربي و الحازمي و آخرون.
قال ابن حبان في صحيحه (3\ 404): «خبر طلق بن علي الذي ذكرناه خبرٌ منسوخٌ. لأن طلق بن علي كان قدومه على النبي (ص) أول سنة من سني الهجرة، حيث كان المسلمون يبنون مسجد رسول الله (ص) بالمدينة. وقد روى أبو هريرة إيجاب الوضوء من مس الذكر على حسب ما ذكرناه قبل. وأبو هريرة أسلم سنة سبع من الهجرة. فدل ذلك على أن خبر أبي هريرة كان بعد خبر طلق بن علي بسبع سنين». ثم سرد خبراً يثبت رجوع طلق إلى بلده في نفس سنة قدومه، ثم قال: «في هذا الخبر بيان واضح أن طلق بن علي رجع إلى بلده بعد القدمة التي ذكرنا وقتها. ثم لا يُعلم له رجوع إلى المدينة بعد ذلك. فمن ادعى رجوعه بعد ذلك، فعليه أن يأتي بسُنةٍ مصرحةٍ، ولا سبيل له إلى ذلك».
¥