نوقش استدلالهم: بأن المقصود من قول النبي- r - : (( لا سبَقَ إلا في خف أو نصل أو حافر)) () التوكيد لا الحصر ()، فمراده- r - أن أحق ما بذل فيه العوض هذه الثلاثة المذكورة؛ لكمال نفعها وعموم مصلحتها، هذا على الرواية الصحيحة للحديث، وهي بفتح الباء ()، أما على الرواية الثانية، وهي بإسكان باء سبْق فيكون المعنى لا سبْق كاملاً نافعاً ().
الإجابة:
أجيب عن هذا: بأن صرف النفي عن الجواز إلى الأحقية أو الكمال ليس بمسلك صحيح، وذلك أن الواجب في كلام الشارع أن يحمل على الحقيقة ما أمكن، فإن تعذر ذلك صرف إلى ما يناسبه (). ولذا فإن الواجب في هذا الحديث وغيره أن يحمل على نفي الصحة أو الجواز أولاً، فإن جاء ما يمنع حمله على الصحة حمل على الكمال، وهذا هو مذهب جمهور الأصوليين والفقهاء ().
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب هذا القول بالقياس على ما ورد به النص، فقالوا: إن الشارع الحكيم إنما أباح بذل العوض في الخيل والإبل والسهام؛ لما لها من أثر في تقوية الدين، وحفظ الشريعة، وإعلاء كلمة الله رب العالمين ()، فما كان موافقاً لها في العلة والمعنى فإنه يلحق بها في الحكم، إذ الأصل في الشريعة أنها لا تفرق بين متماثلين، كما أنها لا تجمع بين نقيضين ().
المناقشة:
نوقش هذا الاستدلال: بأنه ((جمع بين ما فرّق الله - تعالى -، ورسوله - r - بينهما حكماً وحقيقة)) ()، ويتبين بطلان هذا الجمع من الأوجه التالية:
أولاً: أن رسول الله - r - أثبت السبق في الثلاثة: الخيل، والإبل، والسهام، ونفاه عما عداها، فلا يجوز التسوية بينهما ()، إذ أكل المال بهذه الأمور الثلاثة مستثنى من جميع أنواع المغالبات ().
ثانياً: أن المسابقة في الإبل والخيل والسهام هي على صورة الجهاد، وشرعت تمريناً وتدريباً وتوطيناً للنفس عليه، ولا يحصل ذلك فيما عداها ().
ثالثاً: أن الثلاثة المذكورات في الحديث هي آلات الحرب التي تستعمل فيها بخلاف غيرها، فإنها لا تستعمل في الحرب عادة، فليس تأديبها وتعليمها والتمرين عليها من الحق ().
((وبالجملة، فغير هذه الثلاثة المشهورة المذكورة في الحديث لا تشبهها لا صورة، ولا معنى، ولا يحصل مقصودها، فيمتنع إلحاقها بها)) ().
الترجيح:
الذي يظهر رجحانه من القولين السابقين، والله - تعالى - أعلم، هو قصر جواز بذل العوض على ما ورد به النص دون غيره؛ لقوة أدلة هذا القول، وسلامتها من المناقشات، وضعف أدلة القول الثاني، وعدم انفكاكها عن المناقشات. إلا أن هذا الترجيح لا يمنع إباحة المسابقات في آلات الحرب الحديثة، فالنص على هذه الأنواع الثلاثة؛ لكونها آلة الحرب في ذلك الزمن، فإذا تطورت هذه الآلات فإن الحكم يثبت لها.
المسألة الثانية: المسابقة في مباحات ليست في معنى ما ورد به النص
اختلف أهل العلم في بذل العوض في هذا النوع من المسابقات على قولين:
القول الأول: لا يجوز بذل العوض في هذا النوع من المسابقات مطلقاً.
وهذا مذهب الحنفية ()، والمالكية ()، والشافعية ()، والحنابلة ()، وابن حزم من الظاهرية ().
القول الثاني: يجوز بذل العوض في هذا النوع من المسابقات إذا كان العوض من أجنبي.
وحكي هذا قولاً عند المالكية ().
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بمنع بذل العوض في المسابقة فيما ليس في معنى ما ورد به النص بدليلين:
الأول: قول النبي- r -: (( لا سبَق إلا في خف أو نصل أو حافر)) ().
وجه الدلالة:
أن النبي- r - قصر جواز بذل العوض في المسابقات على الإبل والخيل والسهام، فدل ذلك على أنه لا يجوز العوض في غيرها من المسابقات، إذ لولا ذلك لما احتاج إلى استثناء هذه الثلاثة؛ لجواز الاستباق في جميع المباحات بغير عوض (). وقد ذهب بعض أهل العلم إلى إلحاق بعض أنواع المسابقات التي هي في معنى ما ورد به النص بالمنصوص، فجوزوا بذل العوض فيها. أما ماعدا ذلك فإنه لا يجوز بذله فيها؛ لأنه مما لا يتناوله النص، ولا هو في معنى المنصوص عليه ().
الثاني: أن إباحة بذل العوض في هذا النوع من المسابقات يؤدي إلى ((اشتغال النفوس به واتخاذه مكسباً، لا سيما وهو من اللهو واللعب الخفيف على النفوس، فتشتد رغبتها فيه)) ()، وتلتهي به عن كثير من مصالح دينها ودنياها.
أدلة القول الثاني:
¥