36 اللهم فجنبنا طريقة قوم لم يقوموا بحق العلم وأرادوا به الدنيا وأعرضوا عما لهم به في الآخرة من الدرجة العليا فلم يهنئوا محرس ولم يتمتعوا بنضارته بل خلقت عندهم ديباجته ورثت حاله
37 وعرف مقداره جماعة من السادة فعظموه وبجلوه ووقروه واستغنوا به ورأوه بعد المعرفة أفضل ما أعطي البشر واحتقروا في جنبه كل مفتخر وتلو فما آتاني الله خير مما آتاكم
38 وكيف لا يكون الأمر كذلك والعلم حياة والجهل موت فبينهما كما بين الحياة والموت ولقد أحسن من قال وفي الجهل قبل الموت موت لأهله وأجسامهم قبل القبور قبور وإن امرءا لم يحيى بالعلم ميت وليس له حتى النشور نشور
39 وقال إسماعيل بن عبد الله عن عبد الله بن عمر من قرأ القرآن فكأنما أدرجت النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى إليه ومن قرأ القرآن فرأى أن أحدا من الخلق أعطي أفضل مما أعطي فقد حقر ما عظم الله وعظم ما حقر الله فصل في قبض العلماء وفشو الجهل
40 وصح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا
41 وما أعظم حظ من بذل نفسه وجهدها في تحصيل العلم حفظا على الناس لما بقى في أيديهم منه
42 فإنه في هذه الأزمنة قد غلب على أهلها الكسل والملل وحب الدنيا وقد قنع الحريص منهم من علوم القرآن بحفظ سوره ونقل بعض قراءاته وغفل عن علم تفسيره ومعانيه واستنباط أحكامه الشريفة من معانيه واقتصر من علم الحديث على سماع من بعض الكتب على شيوخ أكثرهم
أجهل منه بعلم الرواية فضلا عن الدراية
43 ومنهم من قنع بزبالة أذهان الرجال وكناسة أفكارهم وبالنقل عن أهل مذهبه وقد سئل بعض العارفين عن معنى المذهب فأجاب أن معناه دين مبدل قال الله تعالى ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون
44 ألا ومع هذا يخيل إليه أنه من رؤوس العلماء وهو ثم الله وعند علماء الدين من أجهل الجهال بل بمنزلة قسيس النصارى أو حبر اليهود لأن اليهود والنصارى ما كفروا إلا بابداعهم في الأصول والفروع
45 وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم لتركبن سنن من كان قبلكم الحديث فصل في حالة السلف الصالح في تدافع الفتوى ثم حدوث الحادثة
46 والعلم بالأحكام واستنباطها كان أولا حاصلا للصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم فكانوا إذا نزلت بهم النازلة بحثوا عن حكم الله تعالى فيها من كتاب الله وسنة نبيه وكانوا يتدافعون الفتوى ويود كل منهم لو كفاه إياها غيره
فصل في السؤال عن الحادثة والكلام فيها قبل وقوعها
47 وكان جماعة منهم يكرهون الكلام في مسألة لم تقع ويقولون للسائل عنها أكان ذلك فإن قال لا قالوا دعه حتى يقع ثم نجتهد فيه 48 كل ذلك يفعلونه خوفا من الهجوم على ما لا علم لهم به واشتغالا بما هو الأهم من العبادة والجهاد فإذا وقعت المسألة لم يكن بد من النظر فيها
49 وقال الحافظ البيهقي وقد كره بعض السلف للعوام المسألة عما لم يكن ولم يمض كتاب ولا سنة وكرهوا للمسئول الاجتهاد فيه قبل أن يقع لأن الاجتهاد إنما أبيح للضرورة ولا ضرورة قبل الواقعة فلا يغنيهم ما مضى من الاجتهاد واحتج في ذلك بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه
50 وعن طاووس قال قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو على المنبر أحرج الله على كل امرئ مسلم سأل عن شيء لم يكن فإنه قد بين ما هو كائن
51 وفي رواية لا يحل لكم أن تسألوا عما لم يكن فإن الله تبارك وتعالى قد قضى فيما هو كائن
52 قلت هذا معنى قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم
53 وعن عبد الرحمن بن شريح أن عمر بن الخطاب كان يقول إياكم وهذه العضل فإنها إذا نزلت بعث الله لها من يقيمها ويفسرها 54 قلت إنما يضطر إلى الاجتهاد في الأحكام الحكام ولم يأت الاجتهاد لغير الحكام لحديث معاذ إن لم أجد في كتاب الله تعالى فبسنة رسول
الله وإن لم أجد في سنة رسول الله أجتهد برأيي لأنه كان حاكما
55 وقوله صلى الله عليه وسلم أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل علي فيه شيء وهو حاكم
56 وكذلك قوله تعالى وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث وكانا حاكمين
¥