فقوله صلى الله عليه وسلم: " أبالله تعلموني أيها الناس ". . . إلى قوله: " ومن وجد هديا فلينحر " صريح في الأمر بالنحر في ذلك الوقت الذي ألقى فيه كلمته التوجيهية. وقول جابر: فكنا ننحر الجزور عن سبعة، صريح في الامتثال لأمره صلى الله عليه وسلم يومئذ. وقول ابن عباس: مسند أحمد بن حنبل (1/ 307).إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم يومئذ غنما فأصاب سعد بن أبي وقاص تيسا فذبحه عن نفسه - بين أن ذلك هو زمن أمره صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتحلل من الحج وفسخه إلى عمرة، ويؤيد ذلك روايتا مسلم وأحمد عن أبي الزبير عن جابر: فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية، وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم.
ورواية عكرمة عن ابن عباس صريحة في أن الغنم التي قسمها صلى الله عليه وسلم في أصحاب سعد كان يوم النحر.
وبذلك يتضح التعارض بين الروايتين ويتعين المصير إلى الترجيح.
وعليه فيمكننا ترجيح رواية الحاكم على رواية الإمام أحمد بالأمور الآتية:
أ - إن رواية الحاكم فيها قصة، ورجال الحديث وحفاظه متفقون على أن القصة في الحديث من أدلة حفظه. قال ابن القيم - رحمه الله - في معرض توجيهه القول بالأخذ بحديث عائشة في إنكارها على زيد بن أرقم بيعه بالعينة - قال: وأيضا فإن في الحديث قصة. وعند الحفاظ إذا كان فيه قصة دلهم على أنه محفوظ [إعلام الموقعين] (3\ 217). .
ب - إن دلالة رواية الحاكم على أن سعد بن أبي وقاص ذبح تيسه بعد إحلاله من العمرة - مؤيدة برواية مسلم وأحمد عن جابر: فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم. قال أبو الزبير راوي الحديث عن جابر: ويعني بقوله: حين أمرهم، يعني: إحلال الفسخ الذي أمرهم به في حجة الوداع. اهـ.
ج - إن رجال رواية الحاكم ثقات، وعلى شرط مسلم، كما ذكر ذلك الحاكم، وأقره الذهبي، وفيهم عطاء أفقه الناس في المناسك، ومن أكثرهم علما وورعا وتقى. وقد روى صدرها عن جابر عطاء ومجاهد، وروى عجزها عن ابن عباس عطاء.
د - إن رواية الحاكم مؤيدة بما روى الطبراني عند الهيثمي في [مجمع الزوائد] في باب الخطب في الحج حيث قال: وعن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم يومئذ في أصحابه غنما، فأصاب سعد بن أبي وقاص تيسا فذبحه، فلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة أمر ربيعة بن أمية بن خلف، فقام تحت يدي ناقته وكان رجلا صيتا، فقال: " اصرخ: أيها الناس، أتدرون أي شهر هذا؟!. . . إلى آخره، قال الهيثمي: رواه الطبراني في [الكبير] ورجاله ثقات [مجمع الزوائد] (3\ 271).، فقد رتب رواية وقوفه صلى الله عليه وسلم بعرفة وخطبته في الناس على رواية تقسيمه صلى الله عليه وسلم الغنم في أصحابه وإصابة سعد بن أبي وقاص تيسا منها وذبحه، كما هو الحال في رواية الحاكم.
هـ - إن رواية الإمام أحمد التي فيها: قسم غنما يوم النحر في أصحابه. من طريق عكرمة مولى ابن عباس، ولا يخفى ما لعطاء على عكرمة من الفضل والتقديم والثقة. فإن عكرمة وإن اعتبره بعض أهل العلم، فيكفينا لرد الاحتجاج بروايته إذا عارضت رواية رجال ثقات أمثال عطاء وغيره ممن اعتبرهم أهل العلم ووثقوهم - يكفينا لذلك ما ذكره الحافظ الذهبي في كتابه [ميزان الاعتدال] حيث قال عن عكرمة ما يلي:
قال محمد بن سيرين: ما يسوءني أن يكون من أهل الجنة، ولكنه كذاب، وقال ابن المسيب لمولاه برد: لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس، وقال وهيب: شهدت يحيى بن سعيد الأنصاري ذكر عكرمة فقال: كذاب. وروى جرير عن يزيد بن أبي زيادة عن عبد الله بن الحارث قال: دخلت على علي بن عبد الله، فإذا عكرمة في وثاق عند باب الحش فقلت له: ألا تتق الله، فقال: إن هذا الخبيث يكذب على أبي. وقال ابن أبي ذئب: رأيت عكرمة وكان غير ثقة. وقال مطرف بن عبد الله: سمعت مالكا يكره أن يذكر عكرمة ولا رأى أن يروى عنه.
¥