وهذا أمر صريح لها بالسكنى عند ابن أم مكتوم، فلو كان النظر إلى الرجل حراماً لأمرها بغض بصرها عنه عقب أمره لها بالسكنى عنده، وهذه الحادثة في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة بدليل سؤالها للنبي صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء عدتها واستشارتها له في نكاح رجال خطبوها منهم معاوية بن أبي سفيان، ومعاوية رضي الله عنه من مسلمة الفتح.
2ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على باب حجرتي والحبشة يلعبون في المسجد، ورسول الله يسترني بردائه أنظر إلى لعبهم" (4).
وهذا الإذن من النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة فيه دليل على أن النظر إلى الرجال بلا شهوة غير محرم.
مناقشة القائلين بالتحريم والمنع:
ويمكن مناقشة أدلة القائلين بالمنع بأن قوله تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) عام والأحاديث التي تبيح النظر إلى الرجال خاصة، والعام إذا خص فلا يعمل به وإنما يعمل بالدليل المخصص فلا حجة في ذلك، ويبقى عمل الآية فيما بقي على عمومه مما أمر النساء بكف البصر عنه. وقد قال ابن سعدي في معناها: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) عن النظر إلى العورات والرجال بشهوة ونحو ذلك (5).
وأمَّا حديث أم سلمة فيمكن الجواب عنه بما يلي:
1ـ أن الحديث مختلف في صحته لان فيه راوٍ مجهول، وهو نبهان مولى أم سلمة لم يوثقه إلاَّ ابن حبّان كعادته في توثيق المجاهيل، وقد ضعف هذا الحديث الألباني، (6) وشعيب الأرناؤوط (7).
2ـ على فرض صحته فلعل الأمر لهن بالاحتجاب منه لكونه أعمى فربما كان منه شيء ينكشف وهو لا يشعر به (8)، أو أنه من باب الاستحباب والندب لا الوجوب.
3ـ أن هذا الحديث على فرض صحته خاص بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو داود بعد روايته لهذا الحديث: (هذا لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، ألا ترى اعتداد فاطمة بنت قيس عند ابن أم مكتوم .. ).
مناقشة القائلين بالجواز:
وجّه إلى الدليل الأول وهو حديث فاطمة بنت قيس بأنها يمكن أن تساكنه وتغض بصرها عنه، ولا يخفى بعده.
وأمّا حديث عائشة فقالوا أنها كانت وقتئذٍ صغيرة لم تبلغ بدليل قولها: "فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن". وأجيب عليه بأن الروايات الأخرى تذكر أن ذلك بعد قدوم وفد الحبشة، ووفد الحبشة كان في السنة السابعة من الهجرة فيكون عمر عائشة حينئذٍ ست عشرة سنة، فكانت بالغاً (9).
الترجيح:
الذي يظهر والله أعلم أن نظر المرأة إلى ما يظهر غالبا من الرجل الأجنبي جائز إذا كان بلا شهوة، ومن مسوغات هذا الترجيح ما يلي:
1ـ أن الآية عامة، ولا يمكن بقاؤها على عمومها لوجود المعارض الصحيح القوي الا بترك العمل بالمعارض، أو تعسف تأويله تعسفاً متكلفاً.
2ـ قوة أدلة القائلين بالجواز وجميعها في الصحيحين أو في أحدهما، فلا يقف في وجهها حديث أم سلمة المختلف في صحته، وعلى فرض صحته فإنه مؤول عند العلماء تأويلات مقبولة.
3ـ تناسب هذا القول مع الآية الكريمة: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن) فإن النساء أمرن بحفظ فروجهن عقب الأمر بغض البصر لأنه وسيلة إليه، فيلمس من هذا أن البصر المأمور بحفظه ما كان بشهوة قد تؤدي إلى عدم حفظ الفرج.
4ـ ما رواه البخاري أن امرأة من خثعم وضيئة جاءت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع والفضل بن عباس رديفه فطفق ينظر إليها وتنظر إليه، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم والفضل ينظر إليها، فأخلف بيده فأخذ بذقن الفضل، فعدل وجهه عن النظر إليها (10).
فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يأمر المرأة بغض بصرها، وإنما صرف نظر الفضل لما رأى من الريبة في نظره، ولأنه مأمور بغض بصره عن النساء مطلقاً بشهوة أو بغير شهوة.
4ـ ما فهمه البخاري رحمه الله مع إمامته في الحديث والفقه، فترجم لحديث عائشة رضي الله عنها ونظرها للحبشة بقوله: باب نظر المرأة إلى الحبش ونحوهم من غير ريبة (11).
المسألة الثانية: حكم الاشتراك في هذه القنوات مع احتمال حصول هذه المفسدة.
وللجواب عن هذا يقال:
¥