قَالَ القَاضِي: يا هذا؛ دعْ عنكَ هذا الاغْتِنَامَ، وامضِ بسلامٍ، ففيمَا أخذتَ كفايةٌ، وخلِّ السراويلَ فإنه لي سترٌ ووقايةٌ، لا سيمَا وهذهِ صلاةُ الفجْرِ؛ قد أزفَ حُضورهَا، وأخافُ تَفُوتُنِي؛ فأصليْهَا في غيرِ وقتِهَا، وقدْ قصدتُ أنْ أفوزَ بِهَا؛ في مكانٍ يُحْبِطُ وِزْرِيْ، ويُضَاعِفُ أَجْرِي، ومتى منعتني من ذلكَ كنتَ كمَا قالَ الشَّاعِرُ:
إنَّ الغرابَ وكانَ يَمْشِي مِشْيَةً = فيِمْاَ مَضَى مِنْ سَالِفِ الأَحْوَالِ
حَسَدَ القَطَاةَ فَرَامَ يَمْشِي مَشْيَهَا == فَأَصَابَهُ ضَرْبٌ مِنَ العُقَّالِ
فَأَضَلَّ مِشْيَتَهُ وَأَخْطَأَ مَشْيَهَا === فَلِذَاكَ كَنَّوْهُ أَبَا المِرْقَالِ (7)
قَالَ اللِّصُّ: القاضي أيدَهُ اللهُ تعالى؛ يَرجعُ إلى خِلْعَةٍ غيرِ هذهِ، أحسنَ منها مَنظرًا، وأجودَ خطرًا، وأنا لا أملكُ سِوَاها، ومتى لمْ تكنْ السراويلُ في جُملتِهَا؛ ذهبَ حُسنُهَا، وقلَّ ثَمَنُهَا، لاسيمَا والتِّكَّةُ مليحةٌ وسيمَةٌ، ولها مقدارٌ وقيمةٌ، فدعْ ضربَ الأمثالِ، وأقْلِعْ عنْ تَردادِ المقالِ، فلستُ ممن يُرَدُ بالمِحَالِ، ما دَامَتِ الحاجَةُ مَاسَّةٌ إلى السِّرْوَالِ، ثُمَّ أنشدَ:
دعْ عَنْكَ ضَرْبَكَ سَائِرَ الأَمْثَالِ = واسْمَعْ إذا مَا شِئْتَ فَصْلَ مَقَالِ
لا تَطْلُبَنْ مِنِّي الخَلاصَ فَإِنَّنِي ==== أُفْتِي مَتَى مَا جِئْتَنِي بِسُؤَالِ
ولأَنْتَ إِنْ أَبْصَرْتَنِي أَبْصَرَتْ ذَا ===== قَوْلٍ وَعلْمٍ كَامِلٍ وَفِعَالِ
جَارَتْ عَلَيْهِ يَدُ اللَّيَالِيْ فَانْثَنَى ==== يَبْغِي المَعَاشَ بِصَارِمٍ وَنِصَالِ
فَالْمَوْتُ فِي ضَنْكِ المَوَاقِفِ دُوْنَ أَنْ == أَلْقَى الرِّجَالَ بِذِلَّةِ التَّسْآلِ
وَالْعِلْمُ لَيْسَ بِنَافِعٍ أَرْبَابَهُ ===== أَوْ لاَ (8)، فَقَوِّمْهُ عَلَى البَقَّالِ
ثمَّ قَالَ: ألمْ يقلِ القاضي إِنَّهُ يَتَفَقَّهُ في الدِّينِ، ويَتَصَرَّفُ في فتاوي المُسْلِمِيْنَ؟
قَالَ القَاضِي: أَجَلْ.
قَالَ اللِّصُّ: فَمَنْ صَاحِبُكَ منْ أئمةِ الفُقَهَاءِ؟
قَالَ القَاضِي: صاحبي مُحَمَّدُ بن إدريسَ الشَّافِعِيُّ.
قَالَ اللِّصُّ: اسمعْ هذا وتكون بالسَّرَاويلِ، حتى لا تذهبَ عنكَ السراويلَ إلا بالفوائدِ.
قَالَ القَاضِي: أَجَلْ؛ يا لها من نادرةٍ مَا أَغْرَبَهَا، وحِكَايَةٍ مَا أَعْجَبَهَا.
قال: أيُّ شيءٍ قالَ صاحبُكَ في صلاةِ الفجرِ وغيرِهَا وأنتَ عريانُ؟
قَالَ القَاضِي: لاَ أدري.
قَالَ اللِّصُّ: حدثني أبي عن جدي عن محمد بن إدريسَ يرفعَهُ قَالَ قَالَ رَسُوْلُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((صَلاةُ العُرْيَانِ جَائِزَةٌ، وَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ)) (9)
تأوَّلَ في ذَلِكَ غرقى البَحْرِ إذا سَلِمُوا إلى السَّاحِلِ.
فَنَزَعَ القَاضِي السَّرَاوِيْلَ، وقالَ خُذْهُ وأنتَ أشبَهُ بالقَضَاءِ مِنِّي، وأَنَا أَشْبَهُ باللُّصُوْصِيَّةِ مِنْكَ، يَا مَنْ دَرَسَ عَلَى أَخْذِ ثِيَابِي؛ مُوَطَّأَ مَالِكٍ، وَكِتَابَ الْمُزَنِيِّ، وَمَدَّ يَدَهُ لِيَدْفَعَهُ إِلَيْهِ، فَرَأَى الخَاتَمَ فِي إِصْبَعِهِ اليُمْنَى فَقَالَ: انزعْ الخَاتَمَ.
فقَالَ القَاضِي: إنَّ هذا اليومَ مَا رأيتُ أَنْحَسَ مِنْهُ صَبَاحًا، ولا أقلَّ نَجَاحًا، وَيْحَكَ ما أَشْرَهَكَ، وَأَرْغَبَكَ، وأَشَدَّ طَلَبَكَ وَكَلَبَكَ، دَعْ هَذَا الخَاتَمَ، فَإِنَّه عَارِيَّةٌ مَعِي، وَأَنَا خَرَجْتُ وَنَسِيْتُهُ فِي إِصْبَعِي، فَلا تُلْزِمْنِي غَرَامَتَهُ.
قَالَ اللِّصُّ: العَاريَّةُ غَيْرَ مَضْمُوْنَةٍ، مَا لَمْ يَقَعْ فِيْهَا شَرْطٌ عِنْدِي، وَمَعَ ذلكَ أَفَلَمْ يَزْعُمِ القاضي أَنَّهُ شَافِعِيٌّ؟!
قال: نَعَمْ
قَالَ اللِّصُّ: فلمَ تَخَتَّمْتَ فِي اليَمِيْنِ؟!
قَالَ القَاضِي: هوَ مَذْهَبُنَا.
قَالَ اللِّصُّ: صَدَقْتَ؛ إِلاَّ أنَّهُ صَارَ مِنْ شِعَارِ المُضَادِّيْنَ (10).
¥