فليتَّق الله هؤلاء وليخشوا نقمته، وليعلموا أنَّ ذلك لن ينجيهم من عقاب الله وحسابه، وممَّا يعجب له المطَّلع على أحوال بعض العوام حيث يحفظ هؤلاء حديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهنَّ) ثم يقفون عند هذا الحد، وينسون أو يتناسون تكملة هذا الحديث: (إذا اجتنبت الكبائر).
فليدرك الإنسان نفسه، وليجدد توبته لربه وليبتعد عن منكرات الأخلاق والأقوال والأعمال؛ فإنَّ رسول الهدى ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقول: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) أخرجه البخاري. ويقول: (فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل؛ فإن سابَّه أحد أو شاتمه فليقل: إني صائم) أخرجه البخاري ومسلم.
وقد ذكر الإمام ابن رجب ـ رحمه الله ـ أنَّ بعض السلف قال: (أهون الصيام ترك الشراب والطعام، وقال جابر: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء!!) لطائف المعارف (صـ/292)
وقد وقعت أثناء بحثي في هذا الموضوع على كلام جيد للإمام أبي حامد الغزالي ـ وإن كان فيه شيء من النَّفَس الصوفي ـ حيث قال في كتابه إحياء علوم الدين: (اعلم أنَّ الصوم ثلاث درجات: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص. فأمَّا صوم العموم فهو كفُّ البطن والفرج عن قضاء الشهوة، وأمَّا صوم الخصوص فهو كفُّ السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام، وأما صوم خصوص الخصوص فصوم القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية وكفه عمَّا سوى الله عزَّ وجلَّ بالكلية) إحياء علوم الدين (1/ 328) فالحذر كلَّ الحذر من إبطال الصيام بالموبقات، وقد كان بعض العلماء يرى أنَّ الغيبة تبطل الصيام ويحتاج المرء لقضاء هذا اليوم الذي فاته.
قال مجاهد بن جبر المكي ـ رحمه الله ـ: (خصلتان تفسدان الصيام: الغيبة والكذب، وقال سفيان الثوري: الغيبة تفسد الصوم) إحياء علوم الدين (1/ 329)
صحيح أنَّ القول الراجح أنَّ الغيبة لا تفطر الصائم؛ بمعنى أنَّ من اغتاب لا يلزمه قضاء يوم مكان ذلك اليوم الذي اغتاب فيه، بيد أنَّ شهر رمضان تعظَّم فيه ارتكاب المعصية باعتبار لأنَّه اقترف هذه المعاصي في زمن شريف، ولهذا ما على من فعل ذلك إلاَّ كثرة الاستغفار، ودعاء الله ـ عز وجل ـ أن يتوب عليه وأن يغفر له ذنبه، وقد روي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: (الغيبة تخرق الصيام، والاستغفار يرقعه، فمن استطاع منكم أن يجيء بصوم مرقع فليفعل).علَّق الإمام ابن رجب على هذا الأثر قائلاً: (فصيامنا هذا يحتاج إلى استغفار نافع، وعمل صالح له شافع، كم نخرق صيامنا بسهام الكلام، ثمَّ نرقعه، وقد اتسع الخرق على الراقع والمقصود أنَّ من أراد الصوم الحقيقي فليحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، ويذكر الموت والبلى، ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه وفرحه برؤيته:
أهل الخصوص من الصوام صومهم ... صون اللسان عن البهتان والكذب
والعارفون وأهل الأنس صومهم ... صون القلوب عن الأغيار والحجب)
لطائف المعارف/صـ314
3ـ تذكر المحرومين ومواساتهم:
إنَّ الصيام مواساة وإحسانٌ ... قضى بذلك قرآن وبرهان
نعم الصيام مع المعروف تبذله ... وليس فيه مع الحرمان حرمان
من مقاصد الصيام الجليلة أنَّ فيه تجربة لمقاساة الحرمان والجوع، وتذكُّر الفقراء الذين يقاسون الحرمان أبد الدهر، فيتذكر العبد إخوانه الفقراء وكيف أنَّهم يعانون الأمرَّين من الجوع والعطش، قال العلامة ابن الهمام عن الصائم: (إنَّه لما ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات، ذكر مَنْ هذا حالُه في عموم الأوقات، فتسارع الرقة عليه) (فتح القدير2/ 42)، ومن تدبر ذلك هيَّأ قلبه لمواساة الفقراء بالمال والإطعام والتصدق والبذل والجود والإحسان؛ لأنَّهم إخوانه المؤمنون، وهذا من أعظم التكافل الاجتماعي، والذي يجعل العبد يشعر بشعور معاناة أخيه الفقير ومعدوم المال، وقد ذكر ابن رجب ـ رحمه الله ـ عن بعض السلف أنَّه سئل: (لِمَ شُرِع الصيام؟ فقال: ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع.) لطائف المعارف/صـ314.
¥