من مقاصد الصيام التحلي بفضيلة الصبر، وتقوية الإرادة، فالصيام كما قال السباعي ـ يرحمه الله ـ (رجولة مستعلنة وإرادة مستعلية) (أحكام الصيام / صـ89) وحين خرج قوم طالوت معه للجهاد في سبيل الله ومقاتلة عدو الله جالوت، ابتلى الله ـ عز وجل ـ قوم طالوت بالصوم والإمساك عن الشرب من النهر، وأنَّ من شرب منه لم يستطع أن يجاهد شهوة نفسه ويصبر عليها؛ فكيف يريد أن يجاهد الكفار أعداء الله ـ عز وجل ـ، ومن مرَّ من هذا النهر وصبر وصابر على الصوم فإنّهَ سينال شرف الجهاد في سبيل الله، والانتصار على الكفار.
ولهذا قال تعالى: (فلما فصل طالوت بالجنود قال إنَّ الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلاَّ من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلاً منهم) وهؤلاء القليل الذين لم يشربوا من هذا النهر وصبروا على ذلك هم الذين نالوا العز والمجد والنصر على قوم جالوت الكافرين.
ومن هنا فإنَّ الصوم من أعظم المدارس التربوية التي تعين المرء على التربي على فضيلة الصبر والمصابرة، كيف وأنَّه تعالى قال: (واستعينوا بالصبر والصلاة) وقد فسَّر بعض العلماء الصبر المقصود بالآية بأنَّه: الصوم، قال ابن رجب: (فإنَّ الصيام من الصبر، وقد قال الله ـ تعالى ـ: (إنَّما يوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب)) لطائف المعارف/صـ283) وقد جمع الله في هذه المدرسة أنواع الصبر الثلاثة التي ذكرها العلماء وهي:
أ ـ الصبر على طاعة الله، بأن تصبر نفسك على هذه الطاعة، وتصومها إيماناً بالله، وابتغاء لدرجاته، واحتساباً لثوابه.
ب ـ الصبر على معصية الله، وذلك بأن يتعود العبد على الصوم عمَّا حرَّم الله ـ عزَّ وجل ـ في هذا الوقت من أكل المفطرات التي تفسد صومه، أو الصبر على المعاصي والفواحش والذنوب وموبقات الأعمال؛ فكلما أراد أن يفعل العبد معصية تذكر أنَّه في صوم وعبادة فيصبر نفسه على عدم فعلها ابتغاء لثوابه سبحانه.
ج ـ الصبر على أقدار الله، وهذا أمر واقع في الصوم فإنَّ الله عزَّ وجل قد قدَّر على المسلمين الصيام، وألزمهم به، فيلزمهم أن يطيعوا الله، ويستسلموا لأوامره، وينقادوا لأقداره، ومن ذلك ما يلاقيه المسلم من الجوع والعطش في تأدية هذه العبادة.
وقد ورد كما عند الترمذي وحسَّنه، وابن ماجه: (إنَّ الصوم نصف الصبر) وجاء في الحديث: (صوم شهر الصبر، وثلاثة أيام من كل شهر، يذهبن وحر الصدر) أخرجه البزار عن علي وابن عباس، وأخرجه الطبراني والبغوي عن النمر بن تولب (انظر صحيح الجامع الصغير (3804)) ومعنى وحر الصدر: أي غشَّه ووساوسه، وقيل: الحقد والغيظ، والله أعلم.
فإذا صبر الإنسان على ذلك فإنَّ الله يوفيه أجره بالثواب الجزيل، والخير العميم، وقد قال تعالى: (ذلك بأنَّهم لا يصيبهم ظماٌ ولا نصبٌ ولا مخمصة في سبيل الله ولا ينالون من عدوٍّ نيلاً إلاَّ كُتِبَ لهم به عمل صالح).
وحيث أنَّ الصوم مدرسة للصبر، فهو أيضاً مدرسة لتربية الإرادة، (وقد وضع أحد المفكرين الألمان كتاباً في تقوية الإرادة، فجعل الصوم هو الأساس، وذهب فيه إلى أن الصوم هو الوسيلة الفعَّالة لتحقيق سلطان الروح على الجسد، فيعيش المرء وهو قوي الإرادة، متصلب العزيمة) (الصوم مدرسة تربي الروح ـ للشيخ: عبدالرحمن الدوسري).
6ـ التدريب على الدقَّة والنظام واحترام المواعيد:
ويكفي شاهداً على ذلك قوله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ: (إذا أذن بلال فلا تمسكوا، ولكن أمسكوا إذا أذَّن ابن أم مكتوم) أخرجه البخاري ومسلم، والفرق بين أذان ابن أم مكتوم وأذان بلال كما في الحديث: (ما بينهما إلاَّ أن ينزل هذا ويصعد هذا)!
فلنتأمَّل هذه الدِّقة في كيفية الإمساك عن الطعام وقت الصوم من خلال هذا الحديث، لكي تتربى النفوس على دقة المواعيد، وعلى الاهتمام بالأوقات، إلاَّ أنَّه ويا للأسف قد دارت رحى الأيام واستلقت على القاع القمم، فصرت ترى الكفرة والملحدين، يطبقون هذا الخلق الجميل فيما بينهم، فهذا هرتزل خطَّط بأن يقيم منظمة صهيونية خلال خمسين سنة فأفلح ومن معه في إنشائها بل أقام دولة كاملة (إسرائيل) في أقل من خمسين سنة!
فيتوجب علينا أن نستفيد من الهدي النبوي في أهمية الانضباط في المواعيد، والاهتمام بترتيب الأوقات، ليكون ذلك ديدننا مدى العمر.
¥