وليس في القرآن آية هي الأولى في المصحف وهي ناسخة لآية بعدها إلاّ في موضعين، أحدهما: هذا الموضع , الثاني: آية (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ) هي الأولى في المصحف , وهي ناسخة لقوله: (لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ) الآية؛ لأنها تقدمت في المصحف، فهي متأخرة في النزول , وهذا على القول بالنسخ.
" دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " (ص 13).
2. القول الثاني: أن الناسخ هو قوله تعالى: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً) الأحزاب/ 51.
وهو قول " الضحَّاك " رحمه الله، كما في " معاني القرآن " للنَّحاس (5/ 368)، وهو الذي رجَّحه النووي رحمه الله، كما في " شرح مسلم " (10/ 50)، وقال: " قال أصحابنا: الأصح: أنه صلى الله عليه وسلم ما توفي حتى أبيح له النساء مع أزواجه " انتهى.
وهو – كذلك – ترجيح الشيخ أبي بكر الجزائري حفظه الله، كما في كتابه: " أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير " (4/ 284).
3. القول الثالث: أن الذي نسخ المنع هو السنَّة النبوية:
عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ الله عَنْها: " مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أُحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ ". رواه الترمذي (3216) وقال: حسن صحيح، والنسائي (3204).
وروي عن أم سلمة رضي الله عنها بلفظ: " لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ الله له أن يتزوج من النساء ما شاء، إلا ذات محرم، وذلك قول الله عز وجل: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ) ".
لكنَّ الأثر ضعيف لا يصح، فقد أخرجه ابن أبى حاتم في " تفسيره " (10/ 3145)، وفيه: عمر بن أبي بكر الموصلي، وهو متروك، فالإسناد ضعيف جدّاً.
ورواه ابن سعد (8/ 194) من طريق الواقدي، وهو ضعيف جدّاً.
انظر " بيان مشكل الآثار " (1/ 453).
وقد رجح " النحَّاس " هذا القول، ورأى أن السنَّة هي التي نسخت المنع، وذكر كونها منسوخة بالقرآن احتمالاً، لا ترجيحاً، فقال رحمه الله:
وهذا والله أعلم أولى ما قيل في الآية، وهو وقول عائشة رضي الله عنها واحد في النسخ، وقد يجوز أن تكون عائشة أرادت أحل له ذلك بالقرآن.
" الناسخ والمنسوخ " (ص 629).
وهو الذي رآه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله، وذكر لفتة متينة، فقال:
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَك) الآية، يظهر تعارضه مع قوله: (لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ) الآية.
والجواب: أن قوله: (لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ) منسوخ بقوله: (إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَك)، وقد قدمنا في " سورة البقرة " أنه أحد الموضعين اللّذين في المصحف ناسخهما قبل منسوخهما لتقدمه في ترتيب المصحف مع تأخره في النزول - على القول بذلك -، وقيل: إن الآية الناسخة لها هي قوله تعالى: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ) الآية.
والذي يظهر لنا: أن القول بالنسخ أرجح، وليس المرجح لذلك عندنا أنه قول جماعة من الصحابة ومَن بعدهم، منهم: علي، وابن عباس، وأنس، وغيرهم، ولكن المرجح له عندنا: أنه قول أعلم الناس بالمسألة، أعني أزواجه صلى الله عليه وسلم؛ لأن حِليَّة غيرهن من الضرات، وعدمها: لا يوجد مَن هو أشد اهتماماً بهما منهن، فهن صواحبات القصة، وقد تقرر في علم الأصول أن صاحب القصة يقدَّم على غيره، ولعل هناك تفريق بين ما إذا كان صاحب القصة راوياً، وبين كونه مستنبطاً، كقصة فاطمة بنت قيس في إسقاط النفقة والسكنى، فالحجة معها، والحديث يؤيدها، ومع ذلك فعمَر يرد قولها، ولذلك قدم العلماء رواية ميمونة، وأبي رافع (أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال) على رواية ابن عباس المتفق عليها (أنه تزوجها مُحْرِماً)؛ لأن ميمونة صاحبة القصة وأبا رافع سفير فيها.
¥