قال: لعله أحد أصحابنا الشافعية؟
قلت: لا أدري، لكنه معاصر لنا، وقد علمت انه لا يزال حيا.
فقال لي حينئذٍ: دعك من المعاصرين.
وكانت هذه أول مرة أسمعه يتكلم عن الألباني، ثمَّ توالي السيلُ.
ثم جاء الشيخ الألباني الى مصر فى حدود سنه (1396هـ) أو بعدها بقليل، وألقى محاضرة في المركز العام لجماعة أنصار السنة في عابدين، وكانت محاضرته عن تخصيص السنة لعام القرآن، وتقيدها لمطلقه، وذكر من أمثلة ذلك الذهب المحلَّق.
ولم يكن عندي علم بمحاضرة الشيخ ولا وجوده، فرحل ولم أره، وكان إحدى أمانىَّ الكبار أن ألتقى به، ولم يتحقق لى ذلك إلاَّ بعد زمان طويل وذلك فى أول المحرم سنة (1407 هـ) وكان قد طبع لى بعض الكتب منها " فصل الخطاب بنقد المغنى عن الحفظ والكتاب " و كنت فى هذه الفترة أتتبع كل أخبار الشيخ فكانت تصلنى أخبارٌ عن شدته على الطلبة وقسوته عليهم، و اعتذاره عن التدريس بسبب ضيق الوقت و ارهاق الدوله له، فكدتُ أفقدُ الأملُ حتى قيَّض الله لى أن ألتقي بصهر الشيخ – الأخ نظام سكجّها – فى فندق بحيّ الحسين بالقاهرة، فسألتُه عن الشيخ و إمكان التتلمُذ عليه، فأخبرنى أن ذلك متعذرٌ، ولكن تعال وجرِّبْ!
فكان من خبرى أن سطَّرتُ رسالة للشيخ قلتُ له فيها: إننى علمتُ أنكم تطردون الطلبة عن بابكم، ولدىَّ أكثر من مائتى سؤال فى علل الأحاديث ومعانيها، ولا أقنع إلاَّ بجوابكم دون غيركم، فسأجمع همتى و أسافر إليكم فلا تطردونا عن بابكم، أو كلاماًَ نحو هذا.
و أخبرنى الأخ نظامٌ بعد ذلك أن الشيخ تألمَّ لما قرأ حكاية " الطرد " هذه.
وسافرت إلى الشيخ فى أول المحرم سنة (1407 هـ)، و استخرجتُ تصريح العمل الذي يُخوِّل لى السفر بأعجوبةٍ عجيبةٍ، و أُمضيت ثلاثة أيامٍ فى الطريق كان هوانى فيها شديداً، ومع ذلك لم أكترث له، لما كان يحدوني من الأمل الكبير في لقاء الشيخ.
ولما نزلت عمَّان استقبلنى الأخ الكريم أبو الفداء سمير الزهيري جزاه الله خيرا، إذ أعانني في غربتى، و آوانى فى داره، و بعد الوصل بقليلٍ، كلَّمنا الشيخ بالهاتف، فرحَّب بى غاية الترحيب، وقال لى: حللت أهلاً ونزلت سهلاً، ولم أصدق أذنى!، فأنا ذاهبٌ اليه وقد هيأت نفسى تماماً على الرضا بالطرد، إذا فعل الشيخ ذلك.
وقد بدأنى بالسلام، فرددتُ عليه السلام بمثل ما قال. فقال لى: ما أحسنت الردَّ! فقلتُ: لما يا شيخنا؟
فقال لى: إجعل هذا بحثاً بينى وبينك إذا التقينا غداً!
و ظللتُ ليلتى أُُفكر فى هذا الأمر؛ ترى: ما وجهُ إساءتى الردَّ، حتى خمنت أن الرادَّ ينبغى له أن يزيد شيئاً في ردِّه نحو: ((و عفوه، ورضوانه)) ولم أكن وقفتُ على الحديث الذى قوى الشيخ فيه زيادة ((ومغفرته)) في الرد.
وكان الشيخ يصلى الغداة فى ((مسجد الفالوجا)) بجوار منزل أبى الفداء، ولم أذق طعم النوم ليلتى بسبب تأمُّلى المسألة التي طرحها الشيخ، و لم تكتحل عينى بنومٍ إلاَّ قبيل الفجر، وراح علىَّ بسبب ذلك لقاء الفجر مع الشيخ، وكلمناه فى الصباح، فأعطانا موعداً عقب صلاة العشاء في منزل أبى الفداء.
وكان لقاءً حاراًّ، بدأنى الشيخ بالعناق، لأننى لا يمكن أن أبدأه بذلك هيبةً له، وكان معنا في هذا اللقاء الأخ الفاضل أبو الحارث على الحلبى حفظه الله، وجلسنا نحو ساعةٍ ونصف الساعة نسألُ، والشيخ يجيبُ، فلما تصرمت الجلسة، وخرجنا من الدار، إنتحيتُ بالشيخ جانباً، وشرحتُ له باختصارٍ ما كابدتهُ فى السفر إليه، ولم يخرجنى من بلدى إلاَّ طلبُ العلم، فلو أذن لى الشيخ أن أخدمه وأساعده لأتمكن من ملازمته، فشكرنى و اعتذر لى، نظراً لضيق وقته. فقلت له: أعطنى ساعة كل يوم أسألك فيها. فاعتذر
فقلت له: أعطنى ما يسمح به وقتك ولو كان قصيراً، فاعتذر!
فأحسست برغبة حارَّة ٍفى البكاء، وتمالكت نفسى بعناء بالغٍ، و أطرقتُ قليلاً ثم قلت للشيخ: قد علم الله أنه لم يكن لى مأربٌ قطُّ إلاَّ لقاؤكم و الإستفادةُ منكم، فإن كنتُ أخلصتُ نيتى فسيفتح الله لى، وانْ كانت الأخرى؛ فحسبى عقاباً عاجلاً أن ارجع إلى بلدى بخفى حنين!
وانا سأدعو الله أن يفتح قلبك لى.
ولست أنسى هذا الموقف ما حييت.
¥