قلت: وهذا حديثٌ مُنْكَرٌ، وإسناده واهٍ بمرَّةٍ.
وبهذا الإسناد فى ((العظمة)) (5/ 1758) حديثٌ آخرُ مرفوعاً: ((لا تَسُبُّوا الدِّيكَ الأَبَيْضَ، فَإِنَّه صَدِيقِي، وَأَنَا صَدِيقُه، وَعَدُوهُ عَدُوِي، والَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ، لَوْ يَعْلَمُ بَنُو آدَمَ مَا فِي قُرْبِهِ لاشْتَرَوْا رِيشَهُ وَلَحْمَهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وإنَّه لَيَطْرُدُ مَدَى صَوْتِهِ مِنْ الْجِنِّ)).
وكلا الحديثين منكران، ولهما آفتان:
[الأولى] رِشْدِينُ بْنُ سَعْدِ بْنِ مُفْلِحٍ الْمَهْرِىُّ أبُو الْحَجَّاجِ الْمِصْرِىُّ، مُنْكَرُ الْحَدِيثِ ذَاهِبُ الْحَدِيثِ، أجمعوا على ضعفه، وإن كان عابداً صالحاً فى نفسه. قال يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: ليس بشيءٍ. وضعَّفه أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ، وقال في رواية: هو رجل صالح، ولكنه لا يبالي عمن روى. وقال قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: ما وُضع في يد رِشْدِينَ شئٌ إلا وقرأه. وقال أبو حاتم الرازي: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وفيه غَفْلةٌ، يحدِّث بالمناكير عن الثقات. وقال النسائي: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. وقال الجوزجاني: عنده مناكير كثيرة.
[الثانية] عَبْدُ اللهِ بْنُ صَالِحٍ أبُو صَالِحٍ الْمِصْرِىُّ، كَاتِبُ الليْثِ بْنِ سَعْدٍ.
قال عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ سألت أبي عنه فقال: كان في أول أمره متماسكاً، ثم فسد بآخره. وقال أبو حاتم الرازى: الأحاديث التي أخرجها أبُو صَالِحٍ في آخر عمره فأنكروها عليه، أرى أن هذا مما افتعل خَالِدُ بْنُ نَجِيحٍ، وكان أبُو صَالِحٍ يصحبه، وكان أبُو صَالِحٍ سليمَ الناحية، وكان خَالِدٌ يضع الحديث في كتب الناس، ولم يكن أبُو صَالِحٍ يروي الكذب، بل كان رجلاً صالحاً.
وقال علي بن المديني: ضربت على حديثه. وقال صَالِحُ جَزَرَةَ: كان يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ يوثقه، وعندي أنه يكذب في الحديث.
وقال النسائي: ليس بثقة. وقال ابن عدي: كان مستقيم الحديث، إلا أنه يقع في أسانيده ومتونه غلط، ولا يتعمد الكذب. وقال ابن حبان ((المجروحين)) (2/ 40): ((منكر الحديث جداً يروي عن الأثبات مالا يشبه أحاديث الثقات، وعنده المناكير الكثيرة عن أقوام مشاهير أئمة، وكان في نفسه صدوقاً، يكتب لِليْثِ بْنِ سَعْدٍ الحساب، وكان كاتبه على الغلات، وإنما وقع المناكير في حديثة من قِبَلِ جارٍ له رجلِ سوءٍ. سمعت ابن خزيمة يقول: كان له جارٌ بينه وبينه عداوة، فكان يضع الحديث على شيخ عَبْدِ اللهِ بْنِ صَالِحٍ، ويكتب في قرطاسٍ بخطٍ يشبه خط عَبْدِ اللهِ بْنِ صَالِحٍ، ويطرح في داره في وسط كتبه، فيجده عَبْدُ اللهِ، فيحدِّث به، فيتوهم أنه خطه وسماعه، فمن ناحيته وقع المناكير في أخباره)).
وقد يقال: أليس قد روى عنه الْبُخَارِيُّ فِِى ((صَحِيحِهِ))، ورووا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلَ قَالَ: بِمِصْرَ صَحِيفَةٌ فِي التَّفْسِيرِ، رَوَاهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ لَوْ رَحَلَ رَجُلٌ فِيهَا إِلَى مِصْرَ قَاصِداً مَا كَانَ كَثِيراً. وَهَذِهِ النُّسْخَة كَانَتْ عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ صَالِحٍ كَاتِب اللَّيْث، رَوَاهَا عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِح عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس، وَقَدْ اِعْتَمَدَ عَلَيْهَا الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرةٍ مِنْ ((صَحِيحِهِ))، وَحَسْبُكَ بِهِ تَوثِيقَاً لأبِى صَالِحٍ؟.
قلنا: إنما روى له إمام المحدثين فِِى ((صَحِيحِهِ)) من روايته عن اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ ومُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِح انتقاءً لصحيح حديثه عنهما، مجانباً تلك المناكير التى وقعت له فى روايته عن غيرهما من المشاهير، كما فعل مع جماعةٍ ممن ضعفوا لغلطهم، أو سوء حفظهم، أو روايتهم للمناكير، فانتقى صحيح حديثهم، وأودعه ((صَحِيحَهُ))، أمثال: أُسَامَةَ بْنِ حَفْصٍ الْمَدَنِىِّ، وأَسْبَاطِ أبِى الْيَسَعِ، وأَسِيدِ بْنِ زَيْدٍ الْهَاشِمِى، والْحَسَنِ بْنِ ذَكْوَانَ الْبَصْرِىِّ، ومَرَوَانِ بْنِ شُجَاعٍ، فى نفرٍ ممن وافقوا الأثبات فى رواية الصحاح، فقبلت منهم.
ولذا قال الحافظ ابن حجر فى ((مقدمة الفتح)) (1/ 414): ((ظاهر كلام الأئمة فى أبِى صَالِحٍ أن حديثه في الأول كان مستقيماً، ثم طرأ عليه فيه تخليط، فمقتضى ذلك: أن ما يجئ من روايته عن أهل الحذق كيحيى بن معين، والبخارى، وأبى زرعة، وأبى حاتم فهو من صحيح حديثه، وما يجئ من رواية الشيوخ عنه فيتوقف فيه)) اهـ.
وهذا التعليل الفائق الصحة مستغنٍ بوضوحه عن بيان دلالته عند من له إلمام ولو يسير بمعارف أهل الجرح والتعديل، ومن خالف وجه دلالته فليس له معرفة بأصول هذا العلم الدقيق من علوم الشريعة.
على أننى أكاد أجزم بأن الحديث مما توهمه أبُو الْحَجَّاجِ رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ، كسائر مناكيره التى اتهموه بها دون من فوقه من شيوخه، أو من روى عنه.
¥