قال: قيل لابنِ الْمُبَارَكِ: إنك تكثر الْجُلُوسَ وَحْدَكَ!، فغضب وقال: أنا وحدى!!، أنا مع الأنبياء، والأولياء، والحكماء، والنَّبِيِّ وأصحابه، ثم أنشد هذه الأبيات (من الطويل):
وَلِى جُلَسَاءُ مَا أَمَلُّ حَدِيثَهُمْ ... أَلِبَّاءُ مَأمُونُونَ غَيْبَاً وَمَشْهَدَا
إِذَا مَا اِجْتَمَعْنَا كَانَ حُسْنُ حَدِيثِهِمْ ... مُعِينَاً عَلَى دَفْعِ الْهُمُومِ مُؤيِّدَا
يَفِيدُونَنَا مِنْ عِلْمِهِمْ عِلْمِ مَا مَضَى ... وَعَقْلاً وَتَأدِيبَاً وَرَأياً مُسَدَّدَا
بِلا رِقْبَةٍ أَخْشَى وَلا سُوءَ عِشْرَةٍ ... وَلا أَتَّقِي مِنْهُمْ لِسَانَاً وَلا يَدَا
فَإِنْ قُلْتَ أَحْيَاءٌ فَلَسْتَ بِكَاذِبٍ ... وَإِنْ قُلْتَ أَمْوَاتٌ فَلَسْتَ مُفَنّدَاقلت: وهذه الأبيات من عيون الشعر وروائعه، وقلَ كتابٌ من كتب مفاكهة الجليس ومسامرة الأنيس، إلا ولها منه موضعُ الصَّدَارة، إلا أن أكثرها لم تنسبها لقائلٍ، ونسبتها لابن المبارك حشو وبهتان، إذ لا تثبت له بحالٍ!، وقد زعم بعضهم أنها لكلثوم بن عمرو العتابى.
ويقاربها فى الجودة والإتقان، ومتانة السبك وروعة البيان، قول محمد بن بشير العدوانى من قصيدةٍ له:
فَصِرْتُ فِي الْبَيْتِ مَسْرُورَاً تحْدِّثُنِي ... عِنْ عِلْمِ مَا غَابَ عَنِّي في الْوَرَى الْكُتُبُ
فَرْدَاً تُخَبِّرُنِي الْمَوْتَى وَتَنْطِقُ لِي ... فَلَيْسَ لِي فِي أُنَاسٍ غَيْرِهِمْ أَرَبُ
للهِ مِنْ جُلُسَاءَ لا جَلِيسَهُمُ ... وَلا خَلِيطَهُمُ لِلسوءِ مُرْتَقِبُ
لا بَادِرَاتُ الأَذَى يَخْشَى رَفِيقُهُمُ ... وَلا يُلاقِيهِ مِنْهُمْ مَنْطِقٌ ذَرِبُ
أبْقَوْا لَنَا حِكَمَاً تَبْقَى مَنَافِعُهَا ... أخْرَى اللّيَالِي عَلَى الأيَّامِ وَانْشَعَبُوا
إِنْ شِئْتَ مِنْ مُحْكَمِ الآثَارِ يَرْفَعُهَا ... إِلَى النَّبيِّ ثِقَاتٌ خِيرَةٌ نُجُبُ
أَوْ شِئْتَ مِنْ عَرَبٍ عِلْمَاً بِأَوَّلِهِمْ ... فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُنْبِينِي بِهَا الْعَرَبُ
أو شِئْتَ مِنْ سِيرِ الأَمَلاكِ مِنْ عَجَمٍ ... تُنْبِي وَتُخْبِرُ كَيْفَ الرَّأيُ وَالأَدَبُ
حَتى كَأَنِّي قَدْ شَاهَدْتُ عَصْرَهُمُو ... وَقَدْ مَضَتْ دُونَهُمْ مِنْ دَهْرِنَا حِقَبُ
مَا مَاتَ قَوْمٌ إِذَا أَبْقَوْا لَنَا أَدَبَاً ... وَعِلْمَ دِينٍ وَلا بَانُوا وَلا ذَهَبُواوممن ذكرها المعافى بن زكريا المتوفى 390هـ فى كتابه الفذ ((الجليس الصالح الكافى والأنيس الناصح الشافي)) فقال: ((إن الكتاب إذا حوى ما وصفناه من الحكمة وأنواع الفائدة، كان لمقتنيه والناظر فيه بمنزلة جليس كامل وأنيس فاضل، وصاحب أمين عاقل، وقد قيل في الكتاب ما معناه: أنه حاضر نفعه، مأمون ضره، ينشط بنشاطك فينبسط إليك، ويمل بملالك فينفض عنك، إن أدنيته دنا، وإن أنأيته نأى، لا يبغيك شراً، ولا يفشي عليك سراً، ولا ينم عليك، ولا يسعى بنميمة إليك.
ولذلك قال بعضهم:
نِعْمَ الصاحِبُ وَالْجَلِيسُ كِتَابٌ ... تَلْهُو بِهِ إِنْ خَانَكَ الأَصْحَابْ
لا مُفْشِياً عِنْدَ الْقَطِيعَةِ سِره ... وَتَنَالُ مِنْهُ حِكْمَةً وَصَوَابْوقال آخر:
لَنَا جُلَسَاءُ مَا نَمَلُّ حَدِيثَهُمْ ... أَلِبَّاءُ مَأمُونُونَ غَيْبَاً وَمَشْهَدَا
يَفِيدُونَنَا مِنْ عِلْمِهِمْ طَرْفَ حِكْمَةٍ ... وَلا نَتَّقِي مِنْهُمْ لِسَانَاً وَلا يَدَافي أبيات.
وذُكر عن عبد الله بن المبارك أنه سئل: أما تستوحش من مقامك منفرداً بهيت؟ فقال: كيف يستوحش من يجالس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، وقد كان بعض من كان له في الدنيا صيت ومكانة، عاتبني على ملازمتي المنزل، وإغبابي زيارته، وإقلالي ما عودته من الإلمام به وغشيان حضرته، وقال لي: أما تستوحش الوحدة ونحو هذامن المقالة، فقلت له: أنا في منزلي إذا خلوت من جليس يقصد مجالستي، ويؤثر مساجلتي، في أحسن أنس وأجمله، وأعلاه وأنبله، لأنني أنظر في آثار الملائكة والأنبياء، والأئمة والعلماء، وخواص الأعلام الحكماء، وإلى غيرهم من الخلفاء والوزراء، والملوك والعظماء، والفلاسفة والأدباء، والكتاب والبلغاء، والرجاز والشعراء، وكأنني مجالس لهم، ومستأنس بهم، وغير ناء عن محاضرتهم لوقوفي على أنبائهم، ونظري فيما انتهى إلي من حكمهم
¥