وعبارة الإمام الشافعي هذه جاءت عنه بألفاظٍ أخرى أكثر وضوحاً، فقال في بعضها: ((ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة حديثاً لم يروه غيره، إنما الشاذ من الحديث: أن يروي الثقات حديثاً: على نص؛ ثم يرويه ثقة: خلافاً لروايتهم ز فهذا الذي يقال: شذ عنهم)) (2).
ثم قال تلميذ الحاكم أبو يعلى الخليلي في (الإرشاد): ((أما (الشواذ): فقد قال الشافعي وجماعة من أهل الحجاز: (الشاذ) عندنا: ما يرويه الثقات على لفظٍ واحدٍ، ويرويه ثقة خلافه، زائداً أو ناقصاً. والذي عليه حفاظ الحديث: (الشاذ): ما ليس له إلا إسناد واحد، يشذ بذلك ك شيخ ثقة كان، أو غير ثقة؛ فما كان عن غير ثقة: فمتروك لا يقبل، وما كان عن ثقة: يتوقف فيه، ولا يحتج به)) (3)
فواضح من تصرف الخليلي، أنه اعتبر كلام الإمام الشافعي ومن وافقه من أهل الحجاز مذهباً خاصاً بهم واصطلاحاً لهم، فلم يعترض على الاصطلاح بشيء.
ولعل الحاكم يكون هذا هو موقفه، فيكون الخليلي قد ترجم لنا موقف شيخه الحاكم بعبارته الصريحة السابقة الذكر.
وقبل أن أنتقل إلى مواقف المتأخرين من هذه المسألة، أشرح مذهب الحاكم والخليلي في تفسيرهما للشاذ.
فظاهر أنهما اتفقا أن من شروط (الشذوذ) أن يتفرد به راوٍ، دون أن يكون له متابع.
ثم قد يظن أنهما اختلفا في أمرين اثنين، هما:
الأول: أن الحاكم ذكر أن المتفرد بالشاذ ثقة، وأما الخليلي فالشاذ عنده ما تفرد به ثقة أو غير ثقة. وهذا إنما ظنناه اختلافاً بين الحاكم والخليلي (4) بتسليط معايير الحدود المنطقية على كلام الحاكم، باعتبار أن ما ذكره من شرحه للشاذ تعريفاً جامعاً منعاً. لكن لو عاملناه على غير ذلك، وأخذنا بمنطوقه دون مفهومه، لعرفنا أن الحاكم إنما ذكر أدق نوعي الشاذ، وأشدهما خفاءً، وأحوجهما إلى البيان.
والدليل القاطع بأن الحاكم لا يعارض في تسمية تفرد غير الثقة بالشاذ، هو تصرفه وتطبيقه. ففي (المستدرك) أخرج حديثاً من طريق إسحاق بن بشر الكاهلي الكوفي (ت 218هـ)، وهو كذاب (5)، يرويه هذا من طريق جميع بن عمير التيمي الكوفي وهو مختلف فيه (2)، قال عنه الحافظ في (التقريب): ((صدوق يخطىء ويتشيع)) (3). ثم قال الحاكم عقب هذا الإسناد: ((هذا حديث شاذ، والحمل فيه على جميع بن عمير، وبعده إسحاق بن بشر)) (4). فتعقبه الذهبي بقوله في (تلخيص المستدرك): ((فلم يورد الموضوع هنا؟!!)) (5).
فهذا تصرف قاطع على أن الحاكم يسمي تفرد غير الثقة شاذاً، كما يسميه به الخليلي أيضاً.
وبهذا تعلم جور تسليط معايير الحدود المنطقية على كلام أهل الاصطلاح وشرحهم لمصطلحهم، لأن كلامهم لم يوزن منهم بتلك المعايير!
الأمر الثاني الذي يظن أن الحاكم والخليلي اختلفا فيه: هو أن الحاكم لا يرى الوصف بالشذوذ مانعاً من تصحيح الحديث، ويظن أن الخليلي يخالف الحاكم في ذلك، لأنه ذكر تفرد الشيخ الثقة يتوقف فيه ولا يحتج به.
أما أن الحاكم لا يرى الوصف بالشذوذ مانعاً من وصفه بالصحة، فذلك قد أخذوه من إطلاق الحاكم على تفرد الثقة بأنه شاذ (6).
وأصرح من ذلك كله في أن الحاكم لا يرى الوصف بالشذوذ مناقضاً تصحيح الحديث والاحتجاج به أيضاً، هو أنه في كتابه (المدخل إلى الإكليل)، ذكر أقسام الحديث الصحيح المتفق عليه (7)، فقال في (القسم الرابع من الصحيح المتفق عليه): ((هذه الأحاديث الفراد والغرائب ن التي يرويها الثقات العدول، تفرد بها ثقة من الثقات، وليس لها طرق مخرجة في الكتب ... )) (8)، ثم ضرب لهذا القسم أمثلة، منها حديث اتفق على إخراجه الشيخان، وهو حديث عائشة رضي الله عنها في سحر النبي صلى الله عليه وسلم (8)، ثم قال الحاكم: ((هذا الحديث مخرج في الصحيح، وهو شاذ بمرة)) (9).
فالحاكم موافق على أنه صحيح حجة، لكنه يصفه بالشذوذ باعتبار التفرد فقط.
ولذلك أمثلة متعددة من تصرفات الحاكم!
فمن ذلك قوله عقب حديث في (المستدرك): ((ولعل متوهماً يتوهم أن هذا متن شاذ، فلينظر في الكتابين (يعني صحيح البخاري ومسلم)، ليجد من المتون الشاذ، التي ليس لها إلا إسناد واحد، ما يتعجب منه، ثم ليقس هذا عليها)) (10).
وقال عن حديث آخر في (المستدرك): ((إسناد صحيح، رواته عن آخرهم ثقات، إلا أنه شاذ بمرة)) (11).
¥