و في هذا بيان أن الجهر إذا لم يجاوز الحد المعتدل و كان من طرف واحد , فلا كراهة فيه و لا إنكار عليه. لأنه لا يقع به المحذور في العادة؛ و هو اختلاط الأصوات و حدوث اللغط و الإزعاج. بدليل أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يجهر بالذكر بعد الفراغ من الصلاة، و في المصلين من هو مسبوق.
ليس في هذا الحديث ما ادعيته و إنما فيه عدم رفع الصوت بالقراءة في إرشاده لعمر و عدم خفضه كما خفضه أبو بكر بل أن يبتغي القارئ بين ذلك سبيلا كما قال عز وجل في الإسراء:" وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا".و ليس فيه أن أبا بكر كان في مسجد واحد مع عمر رضي الله عنهما
أما أن يأتي أحد و الناس تصلي فينتصب للموعظة فهذا تشويش و جهر بالكلام فضلا عن القراءة على قارئ القرآن و على المصلي وهذا يعلمه كل من لم يغبن عقله.
فعن عبد الله الزبير قال: " كانَ يقولُ في دُبُرِ الصَّلاةِ إذا سلَّم قبْلَ أنْ يقومَ، يرفعُ بذلكَ صوتَه: لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لَهُ، لَهُ الملكُ، وله الحمدُ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، لا إلهَ إلا اللهُ، [و] لا نعبدُ إلا إيَّاهُ، له النعمةُ، وله الفضلُ، وله الثناءُ الحسنُ، لا إله إلا اللهُ مخلصينَ لَهُ الدِّينَ، ولو كَرِهَ الكافِرُونَ ".
أخرجه الطبراني في " الدعاء " (2/ 1107/681)
و هذا إسناد جيد، كما في " الصحيحة " (3160)
و الحديث أخرجه مسلم، و أبو عوانة في "صحيحيهما " و غيرهما من طرق عن أبي الزبير به. و زادوا:
" و كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهلل بهنَّ دُبُرَ كل صلاة ".
و أخرجه الشافعي في " الأم " (1/ 110)، و من طريقه البغوي في "شرح السنة " (3/ 226/716)، من طريق موسى بن عقبة عن أبي الزبير به. زاد الشافعي:
" يقول بصوته الأعلى: لا إله إلا الله ... " إلخ.
و هي بمعنى زيادة مسلم و غيره: " يهلل .. "؛ أي: يرفع صوته.
و رواه المحاملي في "الأمالي " (211/ 197) من طريق أخرى عن عبد الله بن الزبير بلفظ: " يصيح بذلك صياحاً عالياً "؛ وسنده ضعيف.
و يشهد لرفع الصوت- بهذا الذكر أو بغيره مما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - قول ابن عباس رضي الله عنهما:
" إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته ".
رواه الشيخان و أبو عوانة وغيرهم.اهـ
قال المقري: سمعا وطاعة لله و رسوله نرفع صوتنا بالذكر دبر الصلاة و إن جاءنا أحد و قال بأننا نشوش عليه قلنا بأن الرسول و صحابته كانوا يفعلون هذا.
و نجمع بين أحاديثه عليه السلام بأن نخص رفع الصوت بالذكر دبر الصلاة من عموم النهي المتقدم و لا نضرب كلام نبينا بعضه ببعض.
و عن عائشة رضي الله عنها: " أن رجلا قام من الليل يقرأ فرفع صوته بالقرآن فقال: رسول الله صلى الله عليه و سلم: يرحم الله فلانا كأين من آية أذكرينها الليلة كنت أسقطتها ".
أخرجه أبوداود (1331) بإسناد صحيح على شرط مسلم كما في " صحيح أبي داود " (5/ 76)
و هو في صحيح البخاري برقم (2655)، و فيه: " تهجد النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي فسمع صوت عباد يصلي في المسجد فقال: يا عائشة أصوت عباد هذا؟ قلت: نعم. قال: اللهم ارحم عبادا ".
قال المقري: ليس فيه أن غيره كان في المسجد. و إن كان ذلك فهو موافق للمعهود من جواز الجهر بالقراءة و نحن على يقين من المنع الناقل عن هذه الإباحة، ولسنا متيقنين من عودة الإباحة بعد النهي عن الجهر بالقراءة، ولا يجوز لنا أن نترك اليقين للظن إن الظن لا يغني من الحق شيئا.
و الأحاديث في هذا كثيرة، و الشاهد مما ذُكر منها، بيان أن الجهر لا يكون مؤذيا على كل حال، و بالتالي لا يكون منهيّا عنه على الإطلاق.
قال المقري: بل هو مؤذ على الإطلاق إلا حيث جاء تخصيص لذلك.
و إنني سائلك الآن: متى يكون ذلك تشويشا و متى لا يكون؟
فما ادعيت أنه تشويش ادعى غيرك أنه ليس بتشويش، و ما ادعيت أنه ليس بتشويش قال فيه آخر أنه تشويش، وهكذا إذا أخذنا بالرأي و أهملنا الأثر فسدت الشرائع.
¥