و أما استشهادك بعمل الشيخ ابن باديس -رحمه الله و جعلنا على نهجه في محاربة الحزبيين و الطرقيين الذين ملكوا زمام الشؤون المسماة ظلما شؤون الدين و ليست سوى خادمة لشؤون أهل الأهواء المادية قبل الأهواء العقدية و المذهبية-فشيء قد أضحكني لتذكري كلاما لأحد علماء المغرب يعيب على المشتغلين بالعلم في زمانه الانحدار من اعتبار عمل أهل المدينة حجة و ما هو بحجة إلى اعتبار حجية ما عليه العمل بقرطبة. و كذلك أصبح الأمر بتلمسان إلى مراعاة ما عليه العمل بفاس. ومن يضلل الله فما له من هاد. ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون.
واعلم أنه حتى التعلق بأقوال الرجال ليس لك فيه نصيب إذ و في المعيار المعرب ج1/ 177 - 178:سؤال رفع إلى السرقسطي حول ما يفعله أهل مدينة بلش من أن المتولي لتفريق الاجزاء القرآنية بعد صعود الخطيب إلى المنبر يقف إلى جانب المنبر يعظ المصلين فأجاب السرقسطي رحمه الله بأن هذا العمل بدعة ليس من سنة النبي عليه السلام بل و أنها جرحة في إمامة مرتكبها وشهادته إن لم يتب منها و أصر عليها.
و تحت جوابه تقييدان لكل من العالمين ابراهيم بن أحمد بن فتوح و عبد الله بن أحمد البقني ومما ذكره الثاني أن فاعل ذلك متبع غير سبيل المومنين و آت بشريعة ثانية. و أن السكوت عن هذه البدعة من الأمور الموجبة لغضب الله.
و تحت التقييدين أمر سلطاني مؤرخ بعام 885هـ يمنع بدعة خطيب السارية هته.
و خلاصة ما سبق:تبيّن ضعف مأخذ من أنكر الدرس يوم الجمعة. و منها حديث " النهي عن التحلق "، حيث أن الشيخ الألباني رحمه الله نفسه يقول – كما في " الثمر المستطاب " (1/ 683) -:
ثم إن الحديث قد رأيت اختلاف العلماء في علة النهي فيه عن التحلق و لا يمكن البت في شيء من ذلك لعدم وجود النص عن المعصوم، و لكنه بإطلاقه يشمل كل تحلق و لو كان للعلم و المذاكرة.اهـ
قلت: و مهما أُطلق الحديث و عُمّم و أُرسل، فإنه خارج موضع النزاع، لأن درس الجمعة ليس فيه حلقة أصلا.
و من مآخذهم دعوى التشويش على المصلين، و هذا منقوض بالواقع. و سبب تهافت مثل هذه الدعوى هو عدم استيعاب تصور المسألة قبل إصدار الحكم فيها. فالدرس الذي هو عندنا مثلا، ليس فيه شيء مما ذكر من التهويش و التهويل.
فالناس هنا قد ألفوا هذه الدروس فأخذوا لها أهبتها من التبكير، و رتبوا أوقاتهم لصرفها في وظائف هذا اليوم العظيم. فهم سعداء بسماع العلم و متسابقون إلى الأماكن الأولى من الصفوف المقدّمة. في أجواء مفعمة بالسكينة، و الإيمان و الطمأنينة.
و كم نبهت هذه الدروس من غافل، و حجزت عن الردى من مغامر , و كم أحيت للخير من رموس في نفوس قد درست، و نفخت من روح في أرواح قد يئست. ثمارها يانعة لا ينكرها ذو بصر، و ظلالها وارفة لا يفتقدها ذو بصيرة.
و أما دعوى البدعية فمن أوهن ما تشبثوا به، و قد لاح للعيان بالأدلة و البرهان، وهاء ذلك المتّكأ، و تهافت أركانه. و كم من عمل رُمي بالبدعة و هو من صميم السنة. بسبب ضيق الأفق و الرغبة في دفع غير المألوف.
فالدرس يوم الجمعة مشروع، و فاعله سلف متبوع. و هو لا يخرج عن وظائف ذلك اليوم، بل هو من أولاها و أرجاها. فكيف يوعد بالآثام من درس العلم و بين الحلال و الحرام، و دل الناس على الخير و كشف الشبه و الأوهام؟
و لكن لتعلم أن الدرس ليس له تعلق بأحكام الجمعة، فهو لا يؤثر فيها وجودا و لا عدما. و إنما علاقته باجتماع الناس و حاجتهم إلى بيان أمور دينهم. فلا بأس للإمام حينئذ أن يوظف هذا الإجتماع بإلقاء الدرس عليهم و تفقيههم في دينهم مراعاة للمصلحة و انتهازا لاجتماعهم.
كما أن الدرس لا يحرم أثناءه الكلام و لا الصلاة و لا الذكر. فمن رغب في شيء من ذلك فعل، و لا يحول الدرس بينها و بينه.
هذا، و قد يعمد أحدهم إلى مصحف خلال الدرس، لا ليقرأ و لكن ليخالف و يعرض عن الدرس. و هذا ليس من خلق المسلمين و لا من هدي النبي الأمين صلوات ربي و سلامه عليه.
فعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه:
¥