ونحن نرى أن الأسباب التي يذكرها ابن عبد البر وابن رشد والقرطبي والباجي مختلفة كما أن الأسباب التي يذكرها الطحاوي وابن الهمام وابن نجيم والزيلعي مختلفة، والأسباب التي يذكرها ابو يعلى وابن قدامة وابن تيمية وابن القيم وابن رجب مختلفة، والأسباب التي يذكرها البيهقي والنووي وابن حجر والزركشي والزنجاني والإسنوي مختلفة.
فالفن له تأثير في هذا الباب فلا يقال الطحاوي لم يذكر السبب الأصولي في المسألة؛ لأن الطحاوي غلب عليه علم الحديث والفقه لا علم الأصول وكذلك العكس عند الزنجاني والإسنوي وغيرهما.
الرابع: لا يخفى كذلك على من درس أصول الفقه أن الخلاف فيه أوسع من الخلاف في الفروع فإنك تجد الشافعية يختلفون في المسألة الأصولية على اقوال عدة بعضهم يوافق المذاهب الخرى كالحنفية أو المالكية او الشافعية بل إنك تجد للغزالي قولا يخالف قول إمام الحريم وللآمدي قولاً ثالثاً يخالفهما فيه فالخلاف في مسائل الأصول كثير ومن ثم فتخريج الفروع عليها سيقع فيه اختلاف بناء على المعتمد في المذهب وتعيين المعتمد في المذهب في مسائل الأصول أصعب منه في مسائل الفروع لأن غالب مسائل الأصول في المذاهب استنباطية من أقوال الأئمة الأربعة فهي في الحقيقة تخريح أصول من فروع ثم تخريج الفروع على تلك الأصول، وهذه الأصول أخذت من أقوال الأئمة إما نصاً أو إيماء أو إشارة أو تخريجاً ومعلوم أن ما ماكان هذا مسلكه أن أنظار أتباع المذهب ستختلف فإذا كان الشافعي رحمه الله الذي ألف في الصول وذكر مسائله اختلف اتباعه في توجيه كلامه المنصوص في كتابه الرسالة فما بالك بمن كان قوله مأخوذا استنباطاً عن طريق الإيماء والإشارة وانظر مثلا أقوال الشافعية في تحقيق مذهب الشافعي في المرسل مع أنه نص عليه في الرسالة.
الخامس: قد يقول العالم بمسألة أصولية لكنه يخالفها في فرع فقهي لمدرك آخر وهذا لا يعني انه رجع عن قوله أو أنه لا يقول بتلك القاعدة فلا يصح هنا الاعتراض فقد يرى العالم حجية شرع من قبلنا أو المصلحة المرسلة أو قول الصحابي لكنه لا يعمل بقول الصحابي في مسألة ما ولا يأخذ به فربما يكون لوجود دليل أقوى منه في نظره وربما لم يبلغه القول وربما بلغه ورآه ضعيفاً وربما بلغه وحمله على محمل آخر.
نأتي الآن لما ذكرته أخي الكريم في مسألة الأمر هل هو على الفور أولا وننظر أقوال أهل العلم فيها:
القول الأول: ان الأمر يقتضي الفور هذا القول منسوب إلى الحنفية وهو قول أبي يوسف والكرخي من الحنفية وبهذا قال جمهور المالكية ونسب للشافعي واختاره المزني والصيرفي والقاضي أبو حامد المروروذي من الشافعية وحكي عن أبي الطيب الطبري وسليم الرازي من الشافعية ونسب هذا القول لأحمد وبه قال جمهور الحنابلة وبه قال الظاهرية كما ذكر ابن حزم.
القول الثاني: أن الأمر للتراخي جوازا وهو رأي الحنفية على الصحيح وبه قال المغاربة من المالكية وينسب إلى الشافعية وإلى الشافعي نفسه وهو قول الباقلاني وذكره ابن عقيل رواية عن أحمد.
القول الثالث: انه يدل على مطلق الطلب دون تعرض للوقت ونسب هذا القول للحنفية ونسب للباقلاني واختاره الغزالي في المستصفى والفخر الرازي والآمدي والبيضاوي من الشافعية وابن الحاجب من المالكية وأومأ على هذا أحمد في رواية.
القول الرابع: التوقف وهو قول إمام الحرمين والغزالي في المنخول ونسب لبعض الشافعية وهؤلاء الواقفية أقسام:
منهم من توقف بسبب الاشتراك.
ومنهم من توقف للجهل بالمراد.
ومنهم من توقف في الأمر اللغوي اما الأمر الشرعي فأجروه على الفور لقرينة الشرع.
فتبين من هذا أن المسألة نقل فيها أقوال مختلفة في كل مذهب منها ما يصح ومنها ما حكي ونسب دون تحرير هذا من جهة، ومن جهة أخرى وجدنا في كل مذهب من يقول بما يوافق المذاهب الأخرى فمن الشافعية من قال بالفور ومنهم من قال بالتراخي ومنهم من قال مطلق الطلب ومنهم من قال بالوقف، والحنفية منهم من قال بالفور ومنهم من قال بالتراخي ومنهم من قال لمطلق الطلب، وهذا الأقوال الثلاثة نقلت أيضاً عن أحمد.
¥