وهذا المعلوم من الدين بالضرورة قد يحدث فيه خلاف بين العلماء، إما لقصور عند بعضهم، أو لخلل في التصور، وهذا الخلاف لا يقدح في هذا المعلوم من الدين بالضرورة؛ لأنه ثابت كما قلنا بالتواتر المعنوي.
فليس من شرط المعلوم من الدين بالضرورة أن يتفق عليه العلماء.
بل لا يوجد أصلا أمر معلوم من الدين بالضرورة قد أجمع عليه العلماء (بمعنى أن لدينا نقلا منصوصا عن كل واحد واحد من العلماء).
أما الإجماع فهو اتفاق مجتهدي الأمة في عصر واحد، وهذا الإجماع من المعلوم أن أهل العلم قديما وحديثا يحتجون به، وهو شائع كثيرا جدا في كلام الفقهاء.
فإذا كنا نظن أن مقصود العلماء بالاحتجاج بالإجماع هو (النقل عن كل واحد من العلماء بأعيانهم نقلا منصوصا بحيث لا يفوتنا عالم واحد)، فقد اتهمنا هؤلاء العلماء بالجهل والحمق والغباوة!!
وذلك لأن مثل هذا النقل لا يوجد مطلقا ولا حتى في مسألة واحدة من المسائل!!
فإما أن نقول إن مقصود العلماء بالإجماع هو هذا الفهم الباطل، وحينئذ نلتزم وصفهم بهذه الصفات، وإما أن نرجع إلى أنفسنا ونعلم أننا نحن الذين أخطأنا في فهم مرادهم بالإجماع (وهذه هي الحقيقة مع الأسف!!).
فلا يلزم أن يكون لدينا في كل إجماع نقل منصوص عن كل واحد واحد من أهل العلم، وإنما يكفي أن يكون النقل عن جماعة كثيرة بحيث يحصل الاطمئنان أن هؤلاء قد أجمعوا، وذلك بالرجوع إلى مجاري العادات، وأنه يبعد في العادة أن يتوافر هؤلاء على نقل الخطأ وترك الصواب.
وهذا الإجماع قد تختلف الأنظار في بعض مسائله؛ لتفاوت درجات النقل عن العلماء من مسألة إلى مسألة، ولكن هذا لا يقدح في أصل الاحتجاج بالإجماع؛ كما أن الاختلاف في تصحيح بعض الأحاديث لا يقدح في حجية السنة.
بيان ذلك أننا رأينا أهل العلم قد نقلوا إلينا من الأقوال الشاذة والآراء المنكرة والمذاهب الباطلة ما يتعجب المرء منه كيف يمكن أن يصدر من عاقل!!
فكيف يظن ظان صادق مع نفسه متأدب مع أهل العلم أنه يمكن أن ينقل إلينا أقوال عشرات العلماء متفقة متواطئة على قول واحد ويكون الحق والصواب في نفس الأمر موجودا في قول آخر لم ينقل إلينا!!
هذا سوء ظن عظيم جدا بأهل العلم، أن يجتمعوا على نقل الخطأ وعدم نقل الصواب!!
يعني مثلا لو نقل إلينا في المسألة قول جماعة من الصحابة وجماعة من التابعين وجماعة من أتباع التابعين وجماعة من أتباع تابعي التابعين وجماعة من الأئمة المتبوعين وجماعة من الفقهاء المصنفين وجماعة من علماء المتأخرين.
فمنكر الإجماع ماذا يقول؟؟!!!
يقول: يحتمل أن يكون قد قال صحابي آخر بخلاف قول هؤلاء الصحابة ولكنه لم يصلنا!
وأن يكون قد قال تابعي آخر بخلاف قول هؤلاء التابعين ولم يصلنا!
وأن يكون قد قال تابع تابعي آخر بخلاف قول أتباع التابعين هؤلاء ولم يصلنا!
وأن يكون قد قال تابع آخر من أتباع تابعي التابعين بخلاف قول أهل عصره ولم يصلنا!
وأن يكون قد قال واحد من الأئمة المتبوعين بخلاف قول أهل عصره ولم يصلنا!
وأن يكون قد قال واحد من فقهاء المصنفين بخلاف قول أهل عصره ولم يصلنا!
وأن يكون قد قال واحد من المتأخرين بخلاف قول أهل عصره ولم يصلنا!
وأن يكون القول الذي لم يصلنا هو القول الحق في المسألة!!!
فلو قال قائل: إنه لا يوجد شيء أبعد في العقل من هذا، لكان متجها!!
يعني مثلا سأقرب لكم الأمر بمسألة حسابية، لو افترضنا مجرد افتراض أنه يوجد صحابي خالف هؤلاء الصحابة ولم يصل قوله إلينا، وسنفترض أن احتمال حدوث هذا 40% (مع أن هذا احتمال مرتفع لأقصى حد!!)
وبافتراض أن العصور التي نقل إلينا منها أقوال العلماء عشرون عصرا، فإن احتمال وجود مخالف لم يصل إلينا (!!) في هذه العصور العشرين (باعتبار أن الاحتمال في العصر الواحد 40% كما سبق) هو تقريبا 1 في المليون!!
ومن له معرفة بالحساب يستطيع أن يحسب هذه الحسبة بسهولة.
وأمر الإجماع أوضح من أن يخفى على طلبة العلم المتأصلين، الذين حصلوا العلم بطريقة صحيحة، وأخذوا العلم عن أهله.
أما هؤلاء المجتهدون الجدد الذين ليس للواحد منهم في العلم خمس سنوات!! فلا تطمع في إقناعهم ولا هدايتهم.
والله أعلى وأعلم، وبه الهداية ومنه التوفيق.
ـ[أبو عبدالله الفاصل]ــــــــ[16 - 08 - 08, 12:27 ص]ـ
لأنه إن أراد أن يقيم الحجة على أي إنسان فلن يستطيع؛ وبيان ذلك بما يلي:
- يمكن مخالفَه أن يقول: هذا الحديث الذي تستدل به لا يصح؛ من وجه كذا وكذا وكذا.
- يمكن مخالفَه أن يقول: فهمك للحديث لا يصح من وجه كذا وكذا وكذا.
- يمكن مخالفَه أن يقول: اللفظة الفلانية في الحديث لا دليل على أنها تعني كذا وكذا ....
وكذلك يمكن مخالفه أن يقول: أنا أعتبر الإجماع حجة ولكن لا أقرُّ بأن هذه المسألة محل إجماع!
وذلك لأنه لم ينقل هذا الإجماع متواترا، أو لأنه لا يرى الأجماع السكوتي _ وليس هناك إجماع نطقي _ أو لغير ذلك.
فالمراد أن المماري لا حل معه فليس له معنا كلام.