تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

يقول الإمام بن رشد (الجد) عن المدونة، التي تضم " 36 " ألف مسألة: "حصلت أصل علم المالكيين، وهي مقدمة على غيرها من الدواوين بعد موطأ الإمام مالك، ويروى: أنه ما بعد كتاب الله كتاب أصح من موطأ مالك، رحمه الله؛ ولا بعد الموطأ ديوان في الفقه أفيد من المدونة؛ والمدونة عند أهل الفقه ككتاب سيبويه عند أهل النحو، ... وموضعها من الفقه هو موضع أم القرآن من الصلاة، تجزئ عن غيرها ولا يجزئ غيرها عنها (10).

كان للعلماء في تونس مؤاخذات على المدونة، منها: أنها مسائل مجردة عن التأصيل، قائمة على منهج (التقليد) الذي يقوم على أخذ الحكم عن الإمام مالك وأصحابه دون دليله: فقالوا لمن جاء بها " جئتنا بأخال وأظن، وأحسب وتركت الآثار وما عليه السلف (11)؛ فكان من ذلك أن أعاد سحنون النظر فيها من جديد، فهذبها وبوبها، وألحق فيها من خلاف كبار أصحاب مالك، ما اختار ذكره، وذيل أبوابها بالحديث، والآثار إلا كتبا منها مفرقة، بقيت على أصل اختلاطها" (12).

ورغم أن المدونة صارت أصل المذهب المرجح روايتها على غيرها عند المغاربة، وإياها اختصر مختصر وهم، وشرح شارحوهم وبها مناظرتهم، ومذاكرتهم"، كما يقول القاضي عياض (13)، فإن أحد الفقهاء المحدثين أحرقها في تونس، وهو عباس الفارسي (14)، لأنها كتاب به مسائل تخالف سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

لقد نشأ عن (الموطأ) رغم الحجم الصغير للحديث فيه، فقه الكتاب والسنة، الذي يتشبث بمنهج السلف الصالح في التشريع، بالتأصيل، والتدليل على القواعد والأحكام، ونشأ عن (المدونة) فقه المسائل الذي يتخذ منهج (التقليد) دون اهتمام بالتأصيل، أو بمنهج السلف، وكانت العلاقة بين النوعين من الفقه تكاملا في المرحلة الأولى؛ لكن سرعان ما غلب اتجاه فقه المسائل، فأفلت الفقه، بنسب متفاوتة، من رقابة الشرع، وخاصة على عهد المرابطين، في المغرب والأندلس معا؛ حيث وجد من يجاهر بمعاداة السنة النبوية، ويحارب أهلها، وقد قال أصبغ (15) بن خليل: لأن يكون في تابوتي رأس خنزير، أحب إليَّ من أن يكون فيه مسند ابن أبي شيبة (16)؛ وذلك رغم أن اتجاه التأصيل لم ينقطع من المغرب العربي ومن الأندلس لهذه الفقرات؛ فقد وجد ابن أبي زيد القيرواني (17)، وابن عبد البر القرطبي (18)، وأبو الوليد الباجي (19)، واللخمي (20)، والمازري (21) والقاضي عياض (22)؛ يقول القاضي ابن العربي عن غياب منهج الإمام مالك، وسيطرة منهج التقليد الذي لا يلتفت إلى الدليل من الكتاب والسنة: " عطفنا عنان القول على مصائب نزلت بالعلماء، في طريق الفتوى، لما كثرت البدع وتعاطت المبتدعة منصب الفقهاء، وتعلقت أطماع الجهال به، فنالوه بفساد الزمان، ونفوذ وعد الصادق صلى الله عليه وسلم، في قوله: اتخذ الناس رؤساء جهالا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا؛ وبقيت الحال هكذا، فماتت العلوم إلا عند آحاد الناس، واستمرت القرون على موت العلم، وظهور الجهل، وذلك بقدر الله تعالى، وجعل الخلف، منهم يتبع السلف، حتى آلت الحال إلى ألاّ ينظر في قول مالك، وكبار أصحابه، ويقال: قد قال في هذه المسالة أهل قرطبة، وأهل طلمنكة، وأهل طليطلة، وصار الصبي إذا عقل، وسلكوا به أمثل طريق لهم علموه كتاب الله، ثم نقلوه إلى الأدب، ثم إلى موطأ مالك، ثم إلى المدونة، ثم إلى وثائق ابن العطار، ثم يختمون له بأحكام ابن سهل؛ ثم يقال له: قال فلان الطليطلي، وفلان المجريطي، وابن مغيث (23)، لا أغاث الله ثراه! فيرجع القهقري؛ ولا يزال يمشي إلى وراء ولولا أن الله مَنَّ بطائفة تفرقت في ديار العلم وجاءت بلباب منه، كالقاضي أبي الوليد الباجي، وأبي محمد الأصيلي (24)، فرشوا من ماء العلم على هذه القلوب الميتة، لكان الدين قد ذهب (25).

1 - مالك – أبو زهرة، ص: 192، نقلا عن أبي بكر الأبهري الذي يقارن في بغداد بعبد السلام سحنون التونسي، في خدمة المذهب المالكي ونشره، توفي ببغداد سنة 395.

2 - المجموعة الكاملة لمؤلفات عبد الله بن المقفع، ص: 206 - 208.

3 - ترتيب المدارك، ج2، ص:72.

4 - يعني أبا حنيفة رحمه الله.

5 - مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 20، ص: 307.

6 - طبعت المدونة بمصر في 6 مجلدات ضخام، يزيد كل واحد منها عن خمس مائة صفحة.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير