ومن أمثلة ذلك ما ذكره ابن تيمية رحمه الله (مجموع الفتاوى 23/ 186): "ثمَّ إنَّ ما نهي عنه لسد الذريعة يباح للمصلحة الراجحة، كما يباح النظر إلى المخطوبة والسفر بها إذا خيف ضياعها، كسفرها من دار الحرب، مثل سفر أم كلثوم وكسفر عائشة لما تخلفت مع صفوان بن المعطل؛ فإنه لم ينه عنه إلا لأنه يفضي إلى المفسدة، فإذا كان مقتضياً للمصلحة الراجحة لم يكن مفضياً إلى المفسدة".
وقال في موضع آخر (مجموع الفتاوى 23/ 214): "وهذا أصل لأحمد وغيره: في أنَّ ما كان من باب سد الذريعة إنما ينهى عنه إذا لم يحتج إليه، وأمَّا مع الحاجة للمصلحة التي لا تحصل إلا به وقد ينهى عنه؛ ولهذا يفرق في العقود بين الحيل وسد الذرائع: فالمحتال يقصد المحرم، فهذا ينهى عنه. وأمَّا الذريعة فصاحبها لا يقصد المحرم، لكن إذا لم يحتج إليها نهي عنها، وأما مع الحاجة فلا" اهـ.
ويتبيَّن مما سبق: أنَّ إباحة ما حُرِّم للذريعة لأجل الحاجة منزعه من الترجيح بين المصالح والمفاسد، فما كانت مصلحته أرجح من مفسدته في حالة من الحالات، فإنه لا يسدُّ في تلك الحالة، بل يباح مراعاة للمصلحة الراجحة وإلغاء للمفسدة المرجوحة.
وقد مثّل لذلك ابن تيمية بعض الأمثلة: كالنظر إلى المخطوبة، والسفر بالأجنبية إذا خيف ضياعها ونحو ذلك، ويلحق بذلك نظر القاضي إلى وجه المرأة، وككشف المرأة عورتها للطبيب عند الحاجة.
ومن الأمثلة المعاصرة اليوم: "وجود دخول رجال الأمن والدفاع المدني على المغيّبات اللاتي غاب عنهن محارمهن عند الحاجة لذلك؛ كحدوث حريق أو نحو ذلك، ومن المعلوم أنَّ الدخول على المغيبات لا يجوز، لكن لما كانت المصلحة في الدخول أعظم من مفسدتها انتقل الحكم من الحرمة إلى الجواز، بل الوجوب في حالات الضرورة التي تتعرض فيها النفوس والأطراف للتلف والتهلكة.
مصطلح "فتح الذرائع" مصطلح عبَّر به بعض العلماء، كالقرافي، حيث يقول ـ شرح تنقيح الفصول ص449 ـ: "اعلم أنَّ الذريعة كما يجب سدها، يجب فتحها، ويكره، ويندب، ويباح .. "، ويقول ابن عاشور ـ مقاصد الشريعة ص369 ـ: "إنَّ الشريعة قد عمدت إلى ذرائع المصالح ففتحتها".
والقواعد الفقهية تؤيد هذا؛ ولكن بعبارات أخرى، مثل: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، و" ما لا يتم المباح إلا به فهو مباح" مجموع الفتاوى لابن تيمية 29/ 70.
غير أنَّ استعمال هذا المصطلح "فتح الذرائع" ـ فيما أحسب ـ فيه إيهام حتى وإن كان مستعملاً عند بعض أهل العلم، إذ يتوهم من يسمع به أنَّ المقصود هو فتح الذرائع التي سُدَّت، لإفضائها إلى المحظور.
ولذا وقف بعض الأحبة من هذا المصطلح موقف الرافض؛ ظناً منه أنَّ المقصود هو فتح الذرائع التي تفضي إلى الحرام، وليس بصحيح، وإنما المقصود هو فتح وسائل المباح والواجب والمندوب.
ورفعاً لهذا اللبس والإيهام: فالأولى ترك استعمال هذا المصطلح إلى التعبير بـ"التوسط والاعتدال في إعمال قاعدة سد الذرائع" بحيث لا يُسد من الذرائع إلا ما أفضى إلى المحظور غالباً، وكانت مفسدته أرجح من مصلحته؛ لأنَّ التوسط في إعمال هذه القاعدة يجعل ذرائع المباح مفتوحة للناس استصحاباً للأصل ـ وهو أنَّ الأصل في الأشياء الإباحة ـ واستصحابا للبراءة الأصلية.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم.
* المحاضر في قسم الفقه بكلية الشريعة.
ـ[إبراهيم الجزائري]ــــــــ[15 - 12 - 07, 11:14 ص]ـ
جزاكم الله خيرا
أما عن فتح الذرائع فقد اتخذه المحدثون مصطلحا واعتبروه؛ وعليه يقال " قاعدة الذرائع " يعنون به السد والفتح، وهو صحيح.