تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فالشرع ربط الأحكام بأوصاف، وبنيت عليها أمور الناس، فالعدالة – مثلاً- شرط في قبول الشهادة بنص كتاب الله (وأشهدوا ذوي عدل منكم) وحين مراجعة كلام أهل العلم وتعريفاتهم للعدالة وأوصاف أصحابها نلاحظ ربطهم لها بمألوف الناس ودلائل التعقل والمروءة، وهذا حق لا مرية فيه. ومن المعلوم أن هذا أمر متغير، فما يكون مألوفاً في بلد أو فيه دلالة مروءة قد لا يكون في البلد الآخر، وكذلك عند اختلاف الزمن فمثلا: السير مكشوف الرأس أو الأكل في الطرقات كان في يوم من الأيام، أو بلد من البلدان مظهراً من مظاهر خوارم المروءة يقول القرافي:"ما الصحيح في هذه الأحكام الواقعة في مذهب الشافعي ومالك وغيرهما المرتبة على العوائد والعرف الذين كانا حاصلين حالة جزم العلماء بهذه الأحكام؟ فهل إذا تغيرت تلك العوائد، وصارت العوائد تدل على ضد ما كانت تدل عليه أولاً فهل تبطل هذه الفتاوى المسطورة في كتب الفقهاء ويفتى بما تقتضيه العوائد المتجددة؟ أو يقال: نحن مقلدون وما لنا إحداث شرع لعدم أهليتنا للاجتهاد؟ فنفتي بما في الكتب المنقولة عن المجتهدين؟ " ويعقب–رحمه الله تعالى- مجيبا:"إن استمرار الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع، وجهالة في الدين. بل كل ماهو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغيره إلى ما تقتضيه العادة المتجددة، وليس هذا تجديدا للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد، بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها، فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد".

وإلى جانب هذا لا بد من مراعاة تغير العوائد حتى داخل البلد الواحد فإن كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة ومن أمثله هذا ما نقل عن مالك أنه قال:" إذا تنازع الزوجان في قبض الصداق بعد الدخول أن القول قول الزوج مع أن الأصل عدم القبض قال القاضي إسماعيل هذه كانت عادتهم بالمدينة أن الرجل لا يدخل بامرأته حتى تقبض جميع صداقها واليوم عادتها على خلاف ذلك فالقول قول المرأة مع يمينها لأجل اختلاف العوائد. ومثاله ماورد عن مالك أن الشريفة لاترضع مراعاة للعرف أما اليوم فقد تغيرت العادة وتمييز الشريفة من الدنيئة مما يعسر في الرتب كما قال ابن العربي.

قال اللقاني: وينبغي أن يعلم أن معنى العادة في اللفظ أن يغلب إطلاق لفظ واستعماله في معنى حتى يصير هو المتبادر من ذلك اللفظ عند الإطلاق، مع أن اللغة لا تقتضيه فهذا هو معنى العادة في اللفظ وهو الحقيقة العرفية وهو المجاز الراجح في الأغلب وهو معنى قول الفقهاء، "أن العرف يقدم على اللغة عند التعارض». ومن أمثلة ما وقع في المدونة أن الرجل إذا قال لامرأته أنت علي حرام أو حلية أوبرية أو وهبتك لأهلك يلزمه الطلاق الثلاث في المدخول بها ولا تنفعه النية إن أراد أقل من الثلاث وهذا بناء على أن هذا اللفظ في عرف الاستعمال اشتهر في إزالة العصمة واشتهر في العدد الذي هو الثلاث. لكن مع مرور الزمن لا تجد الناس يستعملون هذه الصيغ المتقدمة في ذلك، بل تمضي الأعمار ولا يسمع أحد يقول لامرأته إذا أراد طلاقها أنت خلية أو وهبتك لأهلك ولا يسمع أحد يستعمل هذه الألفاظ في إزالة العصمة ولا في عدد الطلقات، فالعرف حينئذ في هذه الألفاظ منفي قطعا وإذا انتفى العرف لم تبق إلا اللغة، لأن الكلام عند عدم النية والبساط يرجع إلى اللغة، واللغة لم تضع هذه الألفاظ لهذه المعاني التي قررها مالك في المدونة بالضرورة ولا يدعي أنها مدلول اللفظ لغة إلا من لا يدري اللغة. وإذا لم تفد هذه الألفاظ هذه المعاني لغة ولا عرفا ولا نية فهذه الأحكام حينئذ بلا مستند والفتيا بغير مستند باطلة إجماعا وحرام على قائلها ومعتقديها وعليه فلفظ الحرام يدل على إزالة العصمة فيكون طلقة رجعية، وغيرها من الألفاظ التي ذكرت معها لا تقع إلا بنية فإن لم تكن نية لا يلزم فيها شيء لأنها من الكنايات الخفية.

ومثل هذا يقال فيمن اشتهر عندهم لفظ أنت منطلقة في إزالة العصمة بدل أنت طالق فيحمل الأول في فك العصمة بغير نية لاشتهارها في ذلك ولا يحمل الثاني عليه إلا بنية لعدم اشتهاره فيه.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير