تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

أحدهما: أن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب، إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جهة نفس الخطاب، أو المخاطِب، أو المخاطَب، أو الجميع؛ إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حاله، وبحسب مخاطبيه، وبحسب غير ذلك .. ومعرفة الأسباب رافعة كل مشكل في هذا النمط، فهي من المهمات في فهم الكتاب ولا بد، ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال.

وينشأ عن هذا الوجه: الوجه الثاني: وهو أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه والإشكالات، ومورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال حتى يقع الاختلاف، وذلك مظنة وقوع النزاع .. (8) وقال السعدي":النظر لسياق الآيات، مع العلم بأحوال الرسولصلى الله عليه وسلموسيرته مع أصحابه وأعدائه وقت نزوله من أعظم ما يعين على معرفته وفهم المرادمنه (9)

فالعلم بأسباب النزول بهذا المعنى طريق مهم من طرق الفهم السديد لنصوص الشرع قرآنا وسنة، على أساس أن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب كما قال ابن تيمية رحمه الله (10)

فبمعرفة الملابسات التي سيق فيها النص وجاء بيانا لها وعلاجا لظروفها ينضبط المراد من كلام الشرع، ولا يزل العقل في متاهات الظنون، ولا ينزلق وراء ظاهر غير مقصود ... فلابد من التفرقة بين ما هو خاص وما هو عام، وما هو مؤقت وما هو مؤبد، وما هو جزئي وما هو كلي، فلكل منهما حكمه، والنظر إلى السياق والملابسات والأسباب تساعد على سداد الفهم واستقامته لمن وفقه الله تعالى، وقد أشكل على مروان بن الحكم قوله تعالى: {لاتَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم .. } آل عمران: 188وقال: لئن كان كل امرىء منا فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً، لنعذبنَّجميعا، فبين له ابن عباس رضي الله عنهما أن الآية نزلت في أهل الكتاب حين سألهم النبي صلى اللهعليه وسلم عن شيء، فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، وأَرَوْه أنهم أخبروه بما سألهمعنه، واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه (11)

إن المتفق عليه أن النص القرآني تنزل متفرقاً على مدى ثلاثة وعشرين عاماً. حيث كانت كل آية أو مجموعة آيات تتعلق بواقعة بذاتها أو برد على سؤال أو بتحد واجه المسلمين. فالمنهج الصحيح لتفسير النصوص القرآنية هو بإعادة ربطها بأسباب التنزيل وفهمها على ضوء خلفية الواقعة التي تنزلت بشأنها. وقد قال من قبل عبد الله بن عباس: ((إنه سيكون بعدنا أقوام يقرأون القرآن ولا يدرون فيما نزل. فيكون لهم فيه رأي. ثم يختلفون في الآراء. ثم يقتتلون فيما اختلفوا فيه)). وهذا ما حدث في كثير من بلاد المسلمين في فترات زمانية من التاريخ، حيث أفرز تعدد الفهوم للنص الشرعي الواحد خللا في المشهد الإسلامي، متنوعا في أحسن الأحوال ومتشرذما في أسوئه، وهذا الأمر أوجد بدوره خللا آخر أصاب بنية التفكير الديني في قراءة النصوص الشرعية على مستوى الاستدلال والتأويل، بله الاستنباط والتنزيل، وهو مشكل لا يزال يلقي بظلاله القاتمة على واقع الأمةوربما أيضا على مستقبلها.

لقد ميز العلماء (12) منذ القدم بين مستويين في التعامل مع النص الشرعي: بين مستوى الفهم له ومستوى التنزيل له، فكم من حكم شرعي لم يتم تنزيله وتطبيقه لتخلف محله، ولذلك فإن لعملية الفهم الديني للنص الشرعي أسسا ينبغي أن تقوم عليها لضمان إصابة الحق في ضبط مراد الشرع، كما أن لتنزيل الأحكام أسسا ينبغي أن يقوم عليها لإصابة الحق في التطبيق، وأسباب النزول والورود هي من أسس الفهم والتطبيق معا، من حيث الفهم: فهي إيضاح للمشكل، وتعيين للمبهم، وبيان للمجمل، ودفع لتوهم الحصر، أو دفع لتوهم العموم، وغير ذلك من الفوائد التي بسط العلماء القول فيها.

أما من حيث التنزيل، فإن أسباب النزول والورود تمثل المنطلق لحركة النص الشرعي في الواقع، فهيعيّنات منهجية في كيفية التطبيق والتكييف للنّص الديني ومضمون الوحي مع الواقع الإنساني، فتكسبنا بصيرة نافذةفي الفهم والتنزيل، وتبقى العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما نص على ذلك جمهور الأصوليين.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير