تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقد وقع في هذا الزمان ـ لبعض الناس ـ خلط بين هذين المستويين في الفهم للنص الشرعي، حيث ظنوا أن الفهم الذي لا يمكن تنزيله على واقع الحياة في ظرف ما ولسبب ما، يجب حتما أن يعاد فيه النظر بالتأويل أو الإلغاء، وبذلك ربطوا صحة الفهم للنص الشرعي بإمكانية التطبيق، وبالتالي تغير ذلك الفهم بتغير أحوال الإنسان، وهذا الموقف يفضي حتما إلى نقض النصوص الشرعية وتعطيلها.

وقد يستدل بعض هؤلاء بفعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عام المجاعة، حيث لم يقم حد القطع على السارق، إذ فهموا من ذلك تعطيله لنص شرعي ثابت قطعا، والحاصل أن عمر بن الخطاب لم يتغير فهمه للآية، ولكنه رأى عدم كفاية شروط التنزيل لهذا الفهم على واقع الناس عام المجاعة، فكان ذلك اجتهادا منه في التطبيق لا تغييرا في الفهم للنص الشرعي القطعي.

إن خلود الإسلام يعني قدرته على معالجة مشكلات الإنسان في كل زمان ومكان، وقد تعددت صور النفس الإنسانية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتعددت أحوالها واختلفت معها قضاياها، وكانت تلك ـ في رأيي ـ نماذج لكل الحالات التي أتت وتأتي بعد ذلك، والوحيان القرآن والسنة مفتاحا مشكلاتها كلها إلى قيام الساعة، فالاجتهاد في فهم النص الشرعي لإبراز أحكامه في المستجدات والمتغيرات والنوازل الحاضرة، وإنزالها منازلها أمر لامناص منه، وأسباب النزول والورود بوصفها قرائن أحوال ـ مع ما قرره علماء الإسلام من قواعد الفهم وضوابطه ـ مسلك آمن إلى السداد في الاجتهاد والدقة في الاستنباط.

وقد وردت كثير من التكاليف الشرعية في مناسبات معينة وفي أحداث خاصة، إلا أن تزامن تلك التكاليف مع تلك المناسبات والأحداث لم يكن إلا مناسبة للتكليف، ووسيلة تربوية غايتها تهيئة الظروف والأجواء للفهم والامتثال، وعدم مفاجأة المكلفين بما لا يعقلون سببه وجدواه، فلو نزلت الأحكام دفعة واحدة ليس بينها وبين الواقع الذي يراد حكمه بتلك الأحكام مناسبة معتبرة، ورابط منطقي وسبب مفهوم، لما امتثلها الناس، ولذلك اقتضت حكمة الخالق سبحانه أن يكون نزول القرآن منجما ـ في سياق تفاعلي مع حركة الواقع واختلاف الأحداث والأحوال ـ مصححا ومقوما، ومسددا ومرشدا، وضابط ومقننا لواقع الناس وقضاياهم بما يحقق صالحهم في الحال والمآل "قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها .. "سورة المجادلة الاية1 " يسألونك عن الخمر والميسر .. "سورة البقرة الاية 219"يا أيها النبيء لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك .. " سورة التحريم الآية 1"ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا" سورة التوبة الآية 25"عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين .. "سورة التوبة الآية 43 "وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه .. "سورة الأحزاب الآية 37، إلى غير ذلك من النصوص الدالة على متابعة لقضايا تتحرك في أرض الواقع، من أجل ذلك كان للسياق الخارجي والظروف الواقعية دور بالغ الأهمية في فهم معاني النص وأسراره بوصفها قرائن أحوال في مقابل وظيفة الألفاظ: قرائن المقال.

إلا أن نصوص الشرع خطاب للناس كافة لا تخص بالتكليف من تعلقت به ظروف نزولها دون غيره إلا في حالات معدودة ورد فيها تنصيص جلي على التخصيص، وهذا ما عناه جمهور الأصوليين بأن العبرة في خطاب الشرع بعمومه لا بخصوص السبب الذي كان السياق لأجله.

وهذه القاعدة الأصولية "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" تعتبر قاعدة في السياق من جهة أنه لا عبرةبخصوص السياق الذي نزلت فيه الآية، وإنما العبرة بسياقهاالعام، وهو ما دل عليهغرضها وحكمها العام، قال ابن تيمية:" والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب، هل يختص بسببه أم لا؟ فلم يقلأحد من علماء المسلمين إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين، وإنما غاية ما يقال: إنما تختص بنوع ذلك الشخص فتعم ما يشبهه

(13)، فإذا كانت الآية نازلة في سبب معين فإن هذا يبين المعنى المراد لكنه لا يعني بحال قصر الحكم في الآية على خصوص سببها.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير