والملاحظ أنه بقدر الاهتمام بالمنهج يهيئ الله القبول للعالم والاستفادة منه. ولأضرب لذلك نموذجا واحدا من عشرات الأمثلة والنماذج، ذلكم هو منهج العالم العلم الفذ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، مما حصل له من الأثر العام والخاص ما يقل نظيره في فنون العلم المختلفة، ولا يزال علماؤنا إلى اليوم يستفيدون من منهجه في العقيدة والرد على المخالفين، وفي الأحكام والاستدلال والمناقشة والفتوى وغيرها، مما أكسبهم ثروة علمية ومنهجية قوية يندر نظيرها، وهكذا شأن العلماء العاملين والمحققين المبدعين. وفي المقابل تجد مئات العلماء المغمورين ممن لم يكن لهم الأثر البالغ بسبب تجاهل قضية المنهج وعدم وضوحها في الغالب.
والله المستعان. [5]
المبحث الرابع: نظرة في مناهج الأصوليين:
لقد اعتنى علماء الإسلام وأئمة الدين- عبر العصور- بعلم الأصول، فألفت فيه المؤلفات، وتعددت فيه المدارس، وتباينت المناهج.
فمن العلماء من اعتنى بتحرير القواعد الأصولية، وإقامة الأدلة النقلية عليها واهتم بإيضاح منهجه في الاستدلال، وتأييده بالشواهد من اللغة العربية، وأكثر من الأمثلة بغية الإيضاح والبيان وركز على الناحية التطبيقية، مع أسلوب جزل العبارة، حكيم النزعة، عند نقاش المخالفين وفي مقدمتهم الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه (الرسالة).
ومنهم من سار على هذا المنهج، ولكن نحى منحى التوسع والقوة مع المخالفين، والحدة عند مناقشة أدلة الخصم كما نهج ذلك الإمام ابن حزم الظاهري في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام).
واستقر الأمر على منهجين معروفين مشهورين هما:
منهج الحنفية،
ومنهج المتكلمين.
ولا يكاد أحد من طلاب هذا الفن يجهل هذين المنهجين، وأصحابهما وما ألف فيهما.
وقد سار العلماء بعد ذلك على ضوء هذين المنهجين واكتفوا بالاختصار والتلخيص على أحد المنهجين- في الغالب- وقد يجمع بعضهم بين المنهجين كصدر الشريعة في تنقيح الأصول، والسبكي في جمع الجوامع، وابن الهمام في التحرير، وغيرهم.
إلا أنه مما لا ينكر، وجود اتجاهات آثر أصحابها العودة بهذا العلم إلى أصله الأول-ومن هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاباته الأصولية، وتلميذه ابن القيم ولا سيما في إعلام الموقعين، والشاطبي في الموافقات، وغيرهم - الذي انبثق التأليف منه، فتركوا الالتزام بهذين المنهجين مع جمعهم لمحاسن كل منهما، وتوخوا التحقيق في المسائل، وجردوا هذا العلم مما علق به، من الإغراق في العقليات، والغوص في الجدليات، واهتموا بجواهره ودرره، فأكثروا من بناء المسائل الأصولية على الأدلة النقلية، والقواعد الشرعية، وحرصوا على الإكثار من المسائل الفقهية، وعمدوا إلى الشرح والإيضاح، وتحرروا من التعصب والتقليد، فجاء منهجهم سليما مشوقا مفيدا، تألفه العقول المنصفة، وتستريح له الأفكار السليمة، لما يكسبها من وصول إلى غاية مقصودة، وخروج بثمرة منشودة، ويعتمد صاحبها على الأدلة النقلية الصحيحة، والحجج العقلية السليمة، التي تمنح الاستقلال في الحكم وتفتح الباب للقارئ اللبيب، للبحث والتنقيب، وتيسر تطبيق القواعد الأصولية على ما جد ويجد من قضايا الأمم في مختلف الأمكنة والأزمنة.
وقد استفاد شيخنا الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - من هذا المنهج كثيرا.
على أن ذلك ليس غضا من مسيرة المنهجين الأولين وأصحابهما، اللذين أكسبا ويكسبان فهم هذا العلم على أصوله ويرسخان في ذهن القارئ الخطوط العريضة للمنهج السليم في هذا الفن، وحيث امتازت بالتقعيد والتأصيل الدقيق، والأسلوب الرصين، والتحرير الأوفق، ولا غرو فهم بفنهم أعرف، وبعلمهم أعمق، وقد ساروا في مناقشاتهم على قواعد الجدل، وأصول النقد، والمناظرة المعروفة.
ولم يكن شيخنا - رحمه الله - بمعزل عن التأثر بإيجابيات هذين المنهجين، غير أنه تميز بمنهج أسلم تتبين معالمه والنماذج عليه في الفصل القادم إن شاء الله.
الفصل الثاني: معالم منهج الشيخ عبد الرزاق الأصولي:
بعد أن عرفنا في المبحث السابق مناهج الأصوليين وطريقتهم في عرض مسائل الأصول والتأليف فيه، فإننا نأتي الآن إلى معرفة منهج شيخنا الشيخ عبد الرازق لنتمكن من الربط ومعرفة الفرق بين منهج الأصوليين ومنهج الشيخ - رحمه الله -.
¥