قال ابن حزم رحمه الله: (سمعناكم تقبلون هذا في الصاحب إذا روى الخبر وخالفه فأنكرناه حتى جعلتم ترك التابع لما روى حجة في ترك السنن وهذا إن أدرجتموه بلغ إلينا وإلى من بعدنا فصار كل من بلغه حديث عن النبي ـ * ـ فتركه كائنا من كان من الناس حجة في رد السنن ... ) (1).
وقال أيضا: رداً على من يطعن في الرواية لمخالفة غير الصحابي لها كالتابعي أو تابعي التابعي ... (وكنا نظن ان لهم بعض العذر إذ يحتجون بترك الصاحب لما روى حتى جاءوا بترك السنة [الرواية] من أجل ترك غير الصاحب بها ولئن مشوا هكذا ليكونن ترك مالك للأخذ بما روى حجة على الحنفية في أخذهم به وليكونن ترك أبي حنيفة لما رواه من الحديث حجة على المالكية في أخذهم به وهكذا سفلا حتى يكون ترك كل أحد للحديث عن النبي ـ * ـ إذا بلغه حجة قاطعة في رده) (2).
3 ـ أن يتوارد على الخبر راويان أو أكثر الأول قال بخلاف الرواية والثاني ذهب إلى موافقتها، أو حمله الأول على معنى والآخر على معنى آخر فخالف الأول ... الخ.
فلو أخذنا بموافقة الثاني جاءت العلة [المخالفة] من الأخر.
فمثلا حديث خيار المجلس رواه أبوحنيفة ومالك والشافعي وغيرهم من طريق ابن عمر راويه المباشر فالصحابي ابن عمر رضي الله عنهما رواه وحمله على معنى مما يحتمله لفظ التفرق وهو التفرق بالأبدان، والإمام أبوحنيفة رحمه الله رواه ولم يأخذ بحمل ابن عمر وتفسيره وحمله على التفرق بالأقوال. وهذه المخالفة غير قادحة في الرواية لأنه ثبت من أصولهم تقديم الرأي على الخبر.
والإمام مالك رحمه الله رواه في الموطأ (3) ولم يثبته فلم ير خيار المجلس وهذه المخالفة غير قادحة لأن مخالفته بناء على تقديمه عمل أهل المدينة على خبر الواحد (4).
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ المحلى 7/ 116 باختصار.
(2) ـ المحلى 8/ 92 باختصار.
(3) ـ الموطأ كتاب البيوع 2/ 671، باب بيع الخيار ح (79).
(4) ـ انظر البرهان 1/ 443، البحر المحيط 4/ 370.
والإمام الشافعي رحمه الله رواه وحمله على التفرق بالأبدان تبعا لتفسير ابن عمر الراوي له. وقول الراوي عند الشافعي وغيره من المحققين يرجع إليه إذا كان قوله تفسيرا للحديث ليس مخالفا لظاهره (1).
4 ـ إن جعل المخالفة خاصة بالصحابة هو مذهب الإمام أحمد رحمه الله في إحدى الروايتين وبعض المحدثين، وذلك في الأحاديث التي ردت برواية الصحابي خلاف روايته (2). وجعلوا المخالفة علة قادحة في الرواية.
5 ـ إن قولنا قول الراوي حجة هذا إنما يكون في الصحابي أما التابعي ومن بعده فمخالفته لا تضر.
6 ـ إن الحنفية رحمهم الله طردوا المخالفة إلى ما بعد الصحابي ونجد ذلك في مسائل كثيرة (3). ووافقهم بعض العلماء في بعض المسائل (4).
وهذا الاطراد ضعيف حكاه صاحب فواتح الرحموت عن بعض كتب الحنفية ورد عليه (5). أما مسألة تخصيص العموم فلا تتقيد بالصحابي عندهم بل بالراوي مطلقا كما سيأتي.
* وللحنفية أيضا تفصيل آخر من جهة الخبر:
1 ـ إن كان الخبر مما يحتمل الخفاء من الحوادث النادرة فتركه غير راويه وعمل بخلافه فإنه لا يضر الخبر شيئاً.
2 ـ إن كان الخبر مما لا يحتمل الخفاء وكانت المخالفة من غير الراوي فإن مخالفته تقدح في الخبر ولو كان غير راويه وهذه الصورة الأخيرة ألحقوها بمخالفة الراوي لما روى في الحكم (6).
ومثلوا لها بحديث الجلد مع النفي وقالوا: ثم أبى الخلفاء ذلك وكيف يخفى وهم الأئمة والحدود إليهم.
ــــــــــــــــــــــ
(1) ـ انظر المجموع للنووي 2/ 599.
(2) ـ انظر شرح علل الترمذي 2/ 796ـ801.
(3) ـ مثل مسألة: عدد الرضعات المثبتة للتحريم، انظر ص (460)، ومسألة الاشتراط في الحج، انظر ص (336).
(4) ـ مثل مسألة الاحتكار، انظر ص (391)، ومسألة القضاء بالشاهد واليمين وهذه ليست من مسائل البحث.
(5) ـ فواتح الرحموت 2/ 163.
(6) ـ انظر المغني للخبازي ص215، أصول السرخسي 2/ 7، كشف الأسرار 3/ 66، تيسير التحرير 3/ 73ـ74، فواتح الرحموت 2/ 164، نهاية السول 3/ 167، حاشية المطيعي.
* الجواب عن هذه الصورة الأخيرة:
عقد الإمام البخاري رحمه الله باباً بعنوان (الحجة على من قال إن أحكام النبي ـ * ـ كانت ظاهرة وما كان يغيب بعضهم عن مشاهد النبي ـ * ـ وأمور الإسلام) (1).
وذكر خبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان علي عمر رضي الله عنهما، وقول عمر: (خفي على هذا من أمر النبي ـ * ـ ألهاني الصفق بالأسواق).
قال الحافظ رحمه الله: (هذه الترجمة معقودة لبيان أن كثيرا من الأكابر من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كان يغيب عن بعض ما يقوله النبي ـ * ـ أو يفعله من الأعمال التكليفية، فيستمر على ما كان اطلع عليه هو إما على المنسوخ لعدم إطلاعه على ناسخه وإما على البراءة الأصلية وإذا تقرر ذلك قامت الحجة على من قدم عمل الصحابي الكبير ولاسيما إذا كان قد ولي الحكم على رواية غيره متمسكاً بأن ذلك الكبير لولا أن عنده ما هو أقوى من تلك الرواية لما خالفها ويرده إن في اعتماد ذلك ترك المحقق للمظنون) (2).
ــــــــــــــ
(1) ـ صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة 6/ 2676، باب (22).
(2) ـ فتح الباري 13/ 321.