{30} إن النصوص التي قارنا أساليبها بالاطلاع على نوع الجملة ثم طولها في كل منها، تحتاج أبدًا إلى الاطلاع على علاقة الجملة بغيرها في كل منها الذي كان القدماء يسمونه "معرفة الفصل من الوصل" ويجلونه حتى ربما قصروا عليه صفة البلاغة (73)؛ فما النَّصّ إلا جمل مترابطة (74).
وإن الجداول الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر، لتطلعنا على ما يلي:
أولا - وافقت الخالفتان السالفتين في أول ميلهما وكان إلى استعمال الاستئناف طريقة امتداد.
ثانيًا - كانت نسبة فارق الاستئناف عن العطف في السالفة السادسة (51.86%)، وفى خالفتها (50%)، وهما متقاربتان، غير أنها كانت في السالفة الثامنة (37.84%)، وفى خالفتها (62.96%)، وهما متباعدتان.
ثالثًا - خالفت الخالفتان السالفتين في ترجيح استعمال الترتب على استعمال الاعتراض؛ فبينما استعملت السالفة السادسة الاعتراض والترتب الشرطي واستعملت السالفة الثامنة الترتب الشرطي والقسمي، استعملت الخالفة السادسة الاعتراض والخالفة الثامنة الترتب الشرطي والاعتراض.
قالت السالفة الثامنة:
" لو أن أوطانًا تصور هيكلاً دفنوك بين جوانح الأوطان
أو كان يحمل في الجوارح ميت حملوك في الأسماع والأجفان
أو كان للذكر الحكيم بقية لم تأت بعد رثيت في القرآن ...
يا صب مصر ويا شهيد غرامها هذا ثرى مصر فنم بأمان
اخلع على مصر شبابك عاليًا والبس شباب الحور والولدان "
فقالت خالفتها:
" من للعصافير الذين بجنبه من صلب إسماعيل في الوُجْدان
من ذا يقبل كل خد منهم وقت الصباح بنشوة الولهان
من ذا إليه يهرعون بشوقهم بعد الدراسة مفعمًا بحنان "
تترابط الجملتان بعطف الإسمية منهما على نظيرتها والفعلية على نظيرتها، وفى عطف الفعلية على الإسمية وعكسه، خلاف، غير أن الأرجح جوازه. ولعموم ترابطهما شروط ثلاثة:
أولها - ألا تختلفا خبرًا وإنشاءً.
ثانيها - ألا تتصلا معنىً اتصالاً كاملاً بحيث تكون الأخرى كأنها الأولى.
آخرها - ألا تنفصلا معنىً انفصالاً كاملاً بحيث تبدو الأخرى كأنها غريبة عن الأولى وإن جمعتهما رسالة النص.
إذا كانت الشروط جاز العطف، وإذا لم تكن وجب الاستئناف (75).
وشعراء العرب من قديم - ومنهم العمانيون - يجتهدون ألا يعلقوا الأبيات بعضها ببعض، ويرونه عيبًا يسَمُّونَه "التَّضمين" أي جعل البيت في ضمن البيت (76)؛ فهو يمنعهم أن يقتطعوه ليرووه في المواقف وحده. وإن إيثار نماذج المقارنة جميعًا استعمال الاستئناف طريقة لامتداد الجملة، لبقية مما ترك القدماء، وإنما الذي خالَفَ بينهما ميلُ السالف إلى تنسيق أجزاء البيت، على حين مال خالفه إلى تنسيق الأبيات، ولا سيما في الثامنتين اللتين مثلتُ منهما بما يغني عن غيرهما.
ففي حين انبنى الجزء الأول من نموذج السالفة السابق ذكره، على أن يتحمل كل بيت جملتين شرطًا وجوابًا بحيث يستطيع من شاء أن يقدر أول الثاني والثالث "لو" محذوفة لدلالة التي في بداءة الأول عليها، وانبنى جزؤه الآخر على أن يتحمل كلٌّ من صدر أوله وبيته الثاني، جملتين متعاطفتين وهو نمط من التركيب سبق شبيهه في الفقرة الثامنة والعشرين - انبنى نموذج الخالفة على أن يتحمل كل بيتٍ جملة استفهام تعلق بمسندها ما أتم البيت.
وقد سبق في الفقرة التاسعة والعشرين أن أشرت إلى أمثلة من الجمل الاعتراضية بان فيها طرف من اختلاف الخالف بما استعمل من مد الجملة بالاعتراض الذي ظهر عليه الحشو غالبا.
كلمة القافية
{31} في موضع القافية (آخر ساكنين في البيت، مع ما بينهما من متحركات متى كانت، ومع المتحرك الذي قبلهما) (77)، وموضع كلمتها (جزء الجملة الذي يؤدي القافية، كلمة كان أو أقل أو أكثر، مما يسمى هنا كلمة تجوّزًا) (78) - من البيت وجملته، تتجلى مجاهدات الشاعر الناجحة والفاشلة جميعًا، فنراه قد اختار صيغة كلمة دون أخرى، وقدم كلمة على أخرى، وزاد كلمة دون أخرى، ونقص كلمة دون أخرى، وكل ذلك لا يخرج عن أن يكون في منزلة من هذه المنازل الأربع المرتبة ترتيبًا منطقيًّا (79):
¥