{37} في المنزلة الثانية تكون كلمة القافية العنصر الفرع الذي يتعلق بأساس أو بفرع آخر من جملته. إن الجملة تنتهي قبل أن تأتي القافية كمالة البيت، فيضطر الشاعر إلى أن يحتال ليزيد الكلمة التي تؤدي القافية وتزيد معنى الجملة نوعا من الزيادة، كأن تخصصه أو تعممه أو تغمضه أو توضحه أو تبالغ فيه نوعا من المبالغة، فإذا نجح كان عمله هذا من "الإيغال" الذي وصفه التبريزي بأنه يزيد تجويد البيت (85)، وجعله ابن رشيق ضربا من المبالغة "إلا أنه في القوافي خاصة لا يعدوها، والحاتمي وأصحابه يسمونه التبليغ، وهو تفعيل من بلوغ الغاية، وذلك يشهد بصحة ما قلته" (86)، ثم روى عن الأصمعي قبل ذلك بزمان، قوله في نعوت أشعر الناس: إنه الذي "ينقضي كلامه قبل القافية، فإذا احتاج إليها أفاد بها معنى… نحو ذي الرمة بقوله:
قف العيس في أطلال مية واسأل رسوما كأخلاق الرداء المسلسل
فتم كلامه، ثم احتاج إلى القافية (المسلسل) فزاد شيئا، وقوله:
أظن الذي يجدي عليك سؤالها دموعا كتبديد الجمان المفصل
فتم كلامه، ثم احتاج إلى القافية فقال (المفصل) فزاد شيئا أيضا " (87).
أراد (باحتاج إليها) رغبته في أن يشتمل عليها الكلام المنقضي، ومحاولته ذلك. والمُسَلْسَل الرديء النسج، والمُفَصَّل المفرق، وفي الزيادة الأولى مبالغة في وصف ديار الحبيبة بالبلى، وفي الزيادة الثانية تدقيق في تشبيه الدموع بالجمان.
والإيغال قديم ليس من اختلاف في أن امرأ القيس أول من نهجه (88).
وإذا فشل الشاعر كان عمله ذلك من "الاستدعاء" الذي جعل له ابن رشيق بابا قال في أوله: "هو ألا يكون للقافية فائدة إلا كونها قافية فقط فتخلو حينئذ من المعنى … وما أعجب السيد الحميري في قوله:
أقسم بالفجر وبالعشر والشفع والوتر ورب لقمان…
محمد وابن أبي طالب والوتر رب العزة الباني…
فانظر إلى قوله (رب لقمان) ما أكثر قلقه وأشد ركاكته!!! وأما قوله (الباني) فقد خرج فيه من حد اللين والبرد، وتجاوز فيه الغاية في ثقل الروح، والله حسبه " (89). فرب لقمان رب كل شيء ومليكه، الباني والهادم، وليس في إضافة هذا أو ذاك من فائدة، بل نقص يفسد ما ربما استقام له قبله، فتستحق كلمة القافية أن تكون كما وصفها المرزوقي "قلقة في مقرها، مجتلبة لمستغن عنها" (90).
في الإيغال إذن زيادة كمال السابق، وفي الاستدعاء زيادة نقصه، في الأول نجاح الشاعر، وفي الآخر فشله، وهما وجها منزلة واحدة بين الجدول الثالث حصولها للنوع الأول (اسم مجرور بالمضاف أو بالحرف) بنسبة (35.12%)، وللنوع الثالث (اسم تابع اسم) بنسبة (23.94%)، وللنوع الرابع (اسم مفعولٌ أو نائبه) بنسبة (4.94%)، وللنوع الثامن (اسم حال أو تمييز نسبة) بنسبة (0.59%).
مثال ذلك قول الحبسي:
"خليفة الهادي النبي الذي هدى ذوي الإسلام طرق الرشاد
ملك زرى عدلا بكسرى وفي الملك زرى ملكا بملك ابن عاد
من مثل سلطان إمامٌ فتى مجاهد في الله حق الجهاد
مهذب الطبع حليف الذكا مغني البرايا خيره المستفاد
عدل كريم مستقيم له مكارم لم يحصها ذو فؤاد
حفت به أسد بني يعرب كالأسد فوق الصافنات الجياد ...
وليدم الحاسد في ذلة قرينه الغم وداء الكُباد…
يا بلدة الحزم اشكري ذا العلا شكرا على نيل المنى والمراد" (91).
لقد دخل بكلمة القافية في الأبيات الأول والثاني والثالث والخامس والسابع، من باب (اسم مجرور بالمضاف)، فنجح في الأولى والثانية والثالثة والخامسة وأوغل، حتى إننا لنتوقعها، وفشل في السابعة واستدعى، حتى إننا لنرى الحاسد محظوظاً (بالكباد) وجع المعدة الهين لكثرة شرب الماء!
ودخل بكلمة القافية في الأبيات الرابع والسادس والثامن، من باب (اسم تابع اسم)، فنجح في الرابعة والسادسة وأوغل، حتى إننا لنتوقعهما، وفشل في الثامنة واستدعى، حتى إنه ليخيِّل أن المنى غير مرادة!
إنها المنزلة المسيطرة الطاغية التي ترفع وتخفض، فتدهش بهذا وذاك جميعا متلقي الشعر.
{38} في المنزلة الثالثة تكون كلمة القافية العنصر الأساس الأول في جملة جديدة، على أن يكون العنصر الأساس الآخر منها، في البيت التالي، وهذا هو "التضمين".
¥