وما أحسن كلام ابن القيم في إعلام الموقعين، عندما قال في الرجل الذي اعترف أنه هو الزانى لما رأى أن غيره سيؤخذ به فقال: وأما سقوط الحد عن المعترف فإذا لم يتسع له نطاق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأحرى أن لا يتسع له نطاق كثير من الفقهاء , ولكن اتسع له نطاق الرءوف الرحيم , فقال: إنه قد تاب إلى الله وأبى أن يحده , ولا ريب أن الحسنة التي جاء بها من اعترافه طوعا واختيارا خشية من الله وحده وإنقاذا لرجل مسلم من الهلاك , وتقديم حياة أخيه على حياته واستسلامه للقتل أكبر من السيئة التي فعلها.
والشاهد قوله: وإنقاذا لرجل مسلم من الهلاك , وتقديم حياة أخيه على حياته واستسلامه للقتل أكبر من السيئة التي فعلها.
وأصل القصة في النسائي قال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين، وقد روينا في سنن النسائي من حديث سماك عن علقمة بن وائل عن أبيه: {أن امرأة وقع عليها في سواد الصبح وهي تعمد إلى المسجد بمكروه على نفسها , فاستغاثت برجل مر عليها وفر صاحبها , ثم مر عليها ذوو عدد , فاستغاثت بهم , فأدركوا الرجل الذي كانت استغاثت به فأخذوه , وسبقهم الآخر , فجاءوا يقودونه إليها , فقال: أنا الذي أغثتك وقد ذهب الآخر قال: فأتوا به نبي الله صلى الله عليه وسلم , فأخبرته أنه الذي وقع عليها وأخبر القوم أنهم أدركوه يشتد , فقال: إنما كنت أغثتها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني , فقالت: كذب , هو الذي وقع علي , فقال النبي e : انطلقوا به فارجموه فقام رجل من الناس فقال: لا ترجموه وارجموني , فأنا الذي فعلت بها الفعل , فاعترف فاجتمع ثلاثة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذي وقع عليها والذي أغاثها والمرأة , فقال: أما أنت فقد غفر لك وقال للذي أغاثها قولا حسنا فقال عمر: ارجم الذي اعترف بالزنى , فأبى رسول الله e وآله وسلم ; فقال: {لأنه قد تاب إلى الله}
ثاني عشر: مما يعلم أن جمهور الفقهاء اتفقوا على جواز قتال العدو بل وجوبه إن كان هناك ضرر بتركه حتى وإن أدى ذلك إلى قتل الترس البشري من المسلمين، ولنا أن نقول من المعلوم أن قتل المسلم لأخيه أعظم من قتله لنفسه كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى وكذا ابن حجر في الفتح وغيرهما، لأن قتل المسلم لأخيه يتوجب عليه حقان الحق الأول لله والحق الثاني لأخيه، وأما قتله لنفسه ففيه حق واحد لله فإذا جاز قتل الترس البشري المسلم على أيدي المسلمين من أجل مصلحة الدين وإعلاء كلمة الله، أفلا يجوز قتل المسلم نفسه بنفسه إعلاءً لكلمة الله وحفاظاً على المسلمين من أن يقتلوا أو تنتهك أعراضهم وتستباح بيضتهم، حيث لا يمكن أن نقول بتقديم مصلحة بقاء الواحد على مصلحة بقاء المئات أو درء مفسدة موت الواحد بموت المئات بحال من الأحوال، ولم يأت الإسلام بذلك بل مما جاءت به الشريعة بقواعدها العامة وأمرتنا به أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وكذا لو تعارضت مفسدتان روعي أخطرهما ضراراً بارتكاب أخفهما ضرراً -قاعدة ارتكاب أخف الضررين - وهذا حاصل في استبقاء المئات بأن يفدي المأسور المسلمين بقتل نفسه {وعجلت إليك رب لترضى} وترك مصلحة بقاء الأسير مقدم على جلب مفسدة قتل المئات من المسلمين واستباحة أعراضهم كما ألمح إلى ذلك فضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله.
ثالث عشر: سئل الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى عن ما يلاقيه أهل الجزائر، من المجاهدين، عندما يقعون في الأسر على أيدي الفرنسيون من العذاب والنكال، حتى يعترفوا، ويدلوا على المسلمين، وأسرارهم، فهل لهم أن ينتحروا لكي لا يخبروا بسر المسلمين فكانت الإجابة ما يلي:
[الفرنساويون في هذه السنين تصلبوا في الحرب، ويستعملون (الشرنقات) إذا استولوا على واحد من الجزائريين؛ ليعلمهم بالذخائر والمكامن، ومن يأسرونه قد يكون من الأكابر فيخبرهم أن في المكان الفلاني كذا وكذا.
وهذه الإبرة تسكره إسكاراً مقيداً، ثم هو مع هذا كلامه ما يختلط، فهو يختص بما يبينه بما كان حقيقة وصدقاً.
¥