سابع عشر: نص الفقهاء رحمهم الله تعالى على أن من تعين موته بأحد سببين واستويا في السوء، فله أن يتخير بينهما، كمن احترقت سفينته فيه، ولا يحسن السباحة أو كانت الأسماك المفترسة تحته، فلو اختار موته غرقاً، أو احتراقا ًجاز، وإن غلب على ظنه أن أحد السببين أهون من الآخر، فيتبع الأهون وبه قال جمهور الفقهاء، كما في البحر الرائق وبدائع الصنائع وغيرها من كتب الفقه، قال في البحر الرائق: (فإن كان المسلمون في سفينة فاحترقت السفينة , فإن كان غلبة ظنهم أنهم لو ألقوا أنفسهم في البحر تخلصوا بالسباحة يجب عليهم أن يطرحوا أنفسهم في البحر ليتخلصوا من الهلاك القطعي وإن استوى الجانبان إن أقاموا احترقوا , وإن أوقعوا أنفسهم غرقوا فهم بالخيار عند أبي حنيفة وأبي يوسف لاستواء الجانبين وقال محمد لا يجوز أن يلقوا أنفسهم في الماء ; لأنه يكون إهلاكا بفعلهم) ا هـ.
وهذه هي مسألتنا في غالب أحوالها حيث إن صاحب السر مقتول لا محالة أخبر بالسر أو كتمه وهذا حال الحربي المأسور إلا فيما ندر، وهنا له أن يختار أحد السببين في موته على رأي الفقهاء، فما بالك إذا أضفنا أنه اختار السبب الذي فيه صالح الإسلام والمسلمين؟!!
ثامن عشر: ومن الأدلة على جواز مسألتنا بل فضلها، وأن صاحبها ممن يستحق لقب الشهيد بمشيئة الله تعالى، أن لا عبرة بكيفية القتل ولا باليد القاتلة في استحقاق الشهادة حتى نقول إن من قتل نفسه خوف إفشاء الأسرار ليس بشهيد لأنه باشر قتل نفسه، أو قتل في غير ساحة المعركة، لذا سوف آتي الآن بمبحث (الشهيد وتعريفه) لكي أبين أن من قتل نفسه بهذه الصورة أنه شهيد، ثم أبين بعد ذلك أن لا عبرة باليد القاتلة في مسألة الشهادة في سبيل الله، حيث لم يرد في الشرع أن الشهيد من قتل في المعركة مع الأعداء بيد العدو وإلا فلا شهادة.
الشهيد وتعريفه
أما تعريف الشهيد في اللغة:
فقد جاء في لسان العرب لابن منظور: والشهيد: المقتول في سبيل الله، والجمع شهداء ..... قال والاسم الشهادة، والشهيد الحي؛ عن النضر بن شميل في تفسير الشهيد الذي يستشهد: الحي أي هو عند ربه ... ثم ذكر بعد ذلك لماذا سمي الشهيد بهذا الاسم وعند ابن حجر والنووي ما يغني عن ما ذكره ابن منظور.
وقال صاحب تاج العروس: الشهيد تكسر شينه – قال الليث: وهي لغة بني تميم ... إلى أن قال: والشهيد الحاضر وفعيل من أبنية المبالغة في فاعل .... وقال: والشهيد في الشرع القتيل في سبيل الله ..... إلى آخر ما قال.
القاموس الفقهي: الشهيد من شهد ويأتي بمعنى الشاهد ومن قتل في سبيل الله تعالى ويجمع على شهداء، وأشهاد، ومنه الشاهد: الحاضر ويجمع على شهود وأشهاد وهو أيضاً من يؤدي الشهادة.
وأما تعريفه في الشرع:
فعند الحنفية: قال صاحب حاشية ابن عابدين: هو من قتله المشركون أو وجد مقتولاً في المعركة وبه أثر أية جراحة ظاهرة أو باطنة كخروج الدم من العين أو نحوها.
وقالوا أيضاً في تبيين الحقائق للزيلعي هو كل من صار مقتولاً في قتال أهل الحرب أو البغاة أو قطاع الطريق بمعنى مضاف إلى العدو كان شهيداً، بالمباشرة أو التسبب وكل من صار مقتولاً بمعنى غير مضاف إلى العدو لا يكون شهيداً.
وقالوا كما في البحر الرائق: رجل قصد العدو ليضربه فأخطأ فأصاب نفسه فمات يغسل، لأنه ما صار مقتولا بفعل مضاف إلى العدو ولكنه شهيد فيما ينال من الثواب في الآخرة لأنه قصد العدو لا نفسه، وأطلق في قتله فشمل القتل مباشرة أو تسببا لأن موته مضاف إليهم، حتى لو أوطؤا دابتهم مسلما أو انفروا دابة مسلم فرمته أو رموه من السور أو ألقوا عليه حائطا أو رموا بنار فأحرقوا سفنهم أو ما أشبه ذلك من الأسباب كان شهيدا، ولو انفلتت دابة مشرك ليس عليها أحد فوطئت مسلما أو رمي مسلم إلى الكفار فأصاب مسلما، أو نفرت دابة مسلم من سواد الكفار أو نفر المسلمون منهم فألجئوهم إلى خندق أو نار أو نحوه أو جعلوا حولهم الشوك فمشى عليها مسلم فمات بذلك لم يكن شهيدا، خلافا لأبي يوسف لأن فعله يقطع النسبة إليهم وكذا فعل الدابة دون حامل وإنما لم يكن جعل الشوك حولهم تسبيبا لأن ما قصد به القتل فهو تسبب وما لا فلا، وهم إنما قصدوا به الدفع لا القتل.
¥