وقد نقل الحطّاب عن أبي عبيدٍ أنّ النّساء والذّراريّ ليس فيهم إلاّ الاسترقاق، أو المفاداة بالنّفوس دون المال. وأمّا الرّواية الأخرى عن أبي حنيفة فهي منع مفاداة الأسير بالأسير، ووجهه: أنّ قتل المشركين فرضٌ محكمٌ، فلا يجوز تركه بالمفاداة.
26 - ولو أسلم الأسير لا يفادى به لعدم الفائدة، أي لأنّه فداء مسلمٍ بمسلمٍ، إلاّ إذا طابت به نفسه وهو مأمونٌ على إسلامه:
27 - ويجوز مفاداة الأكثر بالأقلّ والعكس كما قال الشّافعيّة، ولم يصرّح بذلك الحنابلة، لكن في كتبهم ما يوافق ذلك، لاستدلالهم بالأحاديث المتقدّمة. أمّا الحنفيّة فقد نصّوا على أنّه لا يجوز أن يعطى لنا رجلٌ واحدٌ من أسرانا، ويؤخذ بدله أسيران من المشركين.
جعل الأسرى ذمّةً لنا وفرض الجزية عليهم:
28 - اتّفق الفقهاء على أنّه يجوز للإمام أن يضع الجزية في رقاب الأسرى من أهل الكتاب والمجوس على أن يكونوا ذمّةً لنا، وفي وجهٍ عند الشّافعيّ أنّه يجب على الإمام إجابتهم إلى ذلك إذا سألوه، كما يجب إذا بذلوا الجزية في غير أسرٍ. واستدلّوا على جواز ذلك بفعل عمر في أهل السّواد وقالوا: إنّه أمرٌ جوازيٌّ، لأنّهم صاروا في يد المسلمين بغير أمانٍ، وكيلا يسقط بذلك ما ثبت من اختيارٍ. وهذا إن كانوا ممّن تؤخذ منهم الجزية.
وهذا يتّفق مع ما حكاه ابن رشدٍ حيث قال: وقد اتّفق الفقهاء على أنّ الجزية تؤخذ من أهل الكتاب والمجوس، واختلفوا فيما سواهم من المشركين، فقال قومٌ: تؤخذ من كلّ مشركٍ، وبه قال مالكٌ. وأجاز الحنفيّة ذلك للإمام بالنّسبة للأسارى من غير مشركي العرب والمرتدّين، ووضعوا قاعدةً عامّةً هي: كلّ من يجوز استرقاقه من الرّجال، يجوز أخذ الجزية منه بعقد الذّمّة، كأهل الكتاب وعبدة الأوثان من العجم، ومن لا يجوز استرقاقه لا يجوز أخذ الجزية منه، كالمرتدّين وعبدة الأوثان من العرب.
رجوع الإمام في اختياره:
29 - لم نقف فيما رجعنا إليه من كتبٍ على من تعرّض لهذا، إلاّ ما قاله ابن حجرٍ الهيتميّ الشّافعيّ من قولة: لم يتعرّضوا فيما علمت إلى أنّ الإمام لو اختار خصلةً له الرّجوع عنها أوّلاً، ولا إلى أنّ اختياره هل يتوقّف على لفظٍ أو لا. وقال: والّذي يظهر لي في ذلك تفصيلٌ لا بدّ منه، فلو اختار خصلةً وظهر له بالاجتهاد أنّها الأحظّ، ثمّ ظهر له أنّ الأحظّ غيرها، فإن كانت رقّاً لم يجز له الرّجوع عنها مطلقاً، لأنّ الغانمين وأهل الخمس ملكوا بمجرّد ضرب الرّقّ، فلم يملك إبطاله عليهم، وإن كان قتلاً جاز له الرّجوع عنه، تغليباً لحقن الدّماء ما أمكن، وإن كان فداءً أو منّاً لم يعمل بالثّاني، لاستلزامه نقض الاجتهاد بالاجتهاد من غير موجبٍ، إلاّ إذا كان اختياره أحدهما لسببٍ ثمّ زال السّبب، وتعيّنت المصلحة في الثّاني عمل بقضيّته. وليس هذا نقض اجتهادٍ باجتهادٍ، بل بما يشبه النّصّ، لزوال موجبه الأوّل بالكلّيّة.
ما يكون به الاختيار:
30 - وأمّا توقّف الاختيار على لفظٍ، فإنّ الاسترقاق لا بدّ فيه من لفظٍ يدلّ عليه، ولا يكفي فيه مجرّد الفعل، وكذا الفداء، نعم يكفي فيه لفظٌ ملتزمٌ البدل مع قبض الإمام له من غير لفظٍ، بخلاف الخصلتين الأخريين لحصولهما بمجرّد الفعل.
إسلام الأسير:
31 - إذا أسلم الأسير بعد أسره وقبل قضاء الإمام فيه القتل أو المنّ أو الفداء، فإنّه لا يقتل إجماعاً، لأنّه بالإسلام قد عصم دمه.
أمّا استرقاقه ففيه رأيان: فالجمهور، وقولٌ للشّافعيّة، واحتمالٌ للحنابلة أنّ الإمام فيه مخيّرٌ فيما عدا القتل، لأنّه لمّا سقط القتل بإسلامه بقيت باقي الخصال.
والقول الظّاهر للحنابلة، وهو قولٌ للشّافعيّة أنّه يتعيّن استرقاقه، لأنّ سبب الاسترقاق قد انعقد بالأسر قبل إسلامه، فصار كالنّساء والذّراريّ، فيتعيّن استرقاقه فقط، فلا منّ ولا فداء، ولكن يجوز أن يفادي به لتخليصه من الرّقّ.
أموال الأسير:
¥