و من جموحه في ذلك أنه أعرض عن ذكر حديث مسلم عن أنس المطابق لحديث الترجمة إعراضا مطلقا , و لم يشر إليه أدنى إشارة , بل إنه قد اشتط به القلم وغلا , فحكم عليه بالضعف متعلقا بكلام بعضهم في رواية حماد بن سلمة! و هو يعلم أنه من أئمة المسلمين و ثقاتهم , و أن روايته عن ثابت صحيحة , بل قال ابن المديني و أحمد و غيرهما: أثبت أصحاب ثابت حماد , ثم سليمان , ثم حماد بن زيد , و هي صحاح.
وتضعيفه المذكور كنت قرأته قديما جدا في رسالة له في حديث الإحياء - طبع الهند - و لا تطولها يدي الآن لأنقل كلامه , و أتتبع عواره , فليراجعها من شاء التثبت.
ولقد كان من آثار تضعيفه إياه أنني لاحظت أنه أعرض عن ذكره أيضا في شيء من كتبه الجامعة لكل ما هب و دب , مثل " الجامع الصغير " و " زيادته " و " الجامع الكبير "! و لذلك خلا منه " كنز العمال " و الله المستعان , و لا حول و لا قوة إلا بالله.
و تأمل الفرق بينه و بين الحافظ البيهقي الذي قدم الإيمان و التصديق على العاطفة و الهوى , فإنه لما ذكر حديث: " خرجت من نكاح غير سفاح " , قال عقبه: " و أبواه كانا مشركين , بدليل ما أخبرنا .. " , ثم ساق حديث أنس هذا و حديث أبي هريرة المتقدم في زيارة قبر أمه صلى الله عليه وسلم.
العمل الصالح سببا لدخول الجنة ولكنه ليس ثمنا لدخولها
2602 - (لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة [و لا ينجيه من النار] , قالوا: و لا أنت يا رسول الله؟ قال: و لا أنا -[و أشار بيده هكذا على رأسه:]- إلا أن يتغمدني الله منه بفضل و رحمة , [مرتين أو ثلاثا] [فسددوا و قاربوا] [وأبشروا] [و اغدوا و روحوا , و شيء من الدلجة , و القصد القصد تبلغوا] [واعلموا أن أحب العمل إلى الله أدومه و إن قل]).
ورد عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم , منهم: أبو هريرة و عائشة و جابر و أبو سعيد الخدري و أسامة بن شريك.
و اعلم أن هذا الحديث قد يشكل على بعض الناس , و يتوهم أنه مخالف لقوله تعالى: * (وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون) * و نحوها من الآيات و الأحاديث الدالة على أن دخول الجنة بالعمل , و قد أجيب بأجوبة أقربها إلى الصواب: أن الباء في قوله في الحديث: " بعمله " هي باء الثمنية , و الباء في الآية باء السببية , أي أن العمل الصالح سبب لابد منه لدخول الجنة , و لكنه ليس ثمنا لدخول الجنة , و ما فيها من النعيم المقيم و الدرجات. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في بعض فتاويه:
" و لهذا قال بعضهم: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد , و محو الأسباب أن تكون سببا نقص في العقل , و الإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع , و مجرد الأسباب لا يوجب حصول المسبب , فإن المطر إذا نزل و بذر الحب لم يكن ذلك كافيا في حصول النبات , بل لابد من ريح مربية بإذن الله , و لابد من صرف الانتفاء عنه , فلابد من تمام الشروط و زوال الموانع , و كل ذلك بقضاء الله و قدره. و كذلك الولد لا يولد بمجرد إنزال الماء في الفرج , بل كم ممن أنزل و لم يولد له , بل لابد من أن الله شاء خلقه فتحبل المرأة و تربيه في الرحم و سائر ما يتم به خلقه من الشروط و زوال الموانع.
و كذلك أمر الآخرة ليس بمجرد العمل ينال الإنسان السعادة , بل هي سبب , و لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فذكر الحديث) , و قد قال تعالى: * (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) *. فهذه باء السبب , أي بسبب أعمالكم , و الذي نفاه النبي صلى الله عليه وسلم باء المقابلة , كما يقال: اشتريت هذا بهذا. أي ليس العمل عوضا و ثمنا كافيا في دخول الجنة , بل لابد من عفو الله و فضله و رحمته , فبعفوه يمحو السيئات , و برحمته يأتي بالخيرات , و بفضله يضاعف الدرجات.
و في هذا الموضع ضل طائفتان من الناس:
1 - فريق آمنوا بالقدر و ظنوا أن ذلك كاف في حصول المقصود فأعرضوا عن الأسباب الشرعية و الأعمال الصالحة. و هؤلاء يؤول بهم الأمر إلى أن يكفروا بكتب الله و رسله و دينه.
¥