و ليس بخاف على أحد أوتي شيئا من العلم ما في ذاك الاختيار من المخالفة لصريح قوله تعالى * (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا: فيم كنتم ? قالوا: كنا مستضعفين في الأرض , قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟! فأولئك مأواهم جهنم و ساءت مصيرا. إلا المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان لا يستطيعون حيلة و لا يهتدون سبيلا. فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم و كان الله عفوا غفورا , و من يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما (أي تحولا) كثيرا و سعة , و من يخرج من بيته مهاجرا إلى الله و رسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله و كان الله غفورا رحيما) * (النساء 97 - 100).
قال الحافظ ابن كثير في " تفسيره " (1/ 542): " نزلت هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين , و هو قادر على الهجرة , و ليس متمكنا من إقامة الدين , فهو ظالم لنفسه , مرتكب حراما بالإجماع , و بنص هذه الآية ".
و إن مما لا يشك فيه العالم الفقيه أن الآية بعمومها تدل على أكثر من الهجرة من بلاد الكفر , و قد صرح بذلك الإمام القرطبي , فقال في " تفسيره " (5/ 346): " و في هذه الآية دليل على هجران الأرض التي يعمل فيها بالمعاصي , و قال سعيد ابن جبير: إذا عمل بالمعاصي في أرض فاخرج منها , و تلا: * (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ?) * ".
و هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم في " تفسيره " (2/ 174 / 1) بسند صحيح عن سعيد. و أشار إليه الحافظ في " الفتح " فقال (8/ 263): " و استنبط سعيد بن جبير من هذه الآية وجوب الهجرة من الأرض التي يعمل فيها بالمعصية ".
و قد يظن بعض الجهلة من الخطباء و الدكاترة و الأساتذة , أن قوله صلى الله عليه وسلم: " لا هجرة بعد الفتح " ناسخ للهجرة مطلقا , و هو جهل فاضح بالكتاب و السنة و أقوال الأئمة , و قد سمعت ذلك من بعض مدعي العلم من الأساتذة في مناقشة جرت بيني و بينه بمناسبة الفتنة التي أثارها علي ذلك الخطيب المشار إليه آنفا , فلما ذكرته بالحديث الصريح في عدم انقطاع التوبة المتقدم بلفظ: " لا تنقطع الهجرة .. " إلخ .. لم يحر جوابا!
و بهذه المناسبة أنقل إلى القراء الكرام ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في الحديثين المذكورين , و أنه لا تعارض بينهما , فقال في " مجموع الفتاوى " (18/ 281): " و كلاهما حق, فالأول أراد به الهجرة المعهودة في زمانه , و هي الهجرة إلى المدينة من مكة و غيرها من أرض العرب , فإن هذه الهجرة كانت مشروعة لما كانت مكة و غيرها دار كفر و حرب , و كان الإيمان بالمدينة , فكانت الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام واجبة لمن قدر عليها , فلما فتحت مكة و صارت دار الإسلام و دخلت العرب في الإسلام صارت هذه الأرض كلها دار الإسلام , فقال: " لا هجرة بعد الفتح " , و كون الأرض دار كفر و دار إيمان , أو دار فاسقين ليست صفة لازمة لها: بل هي صفة عارضة بحسب سكانها , فكل أرض سكانها المؤمنون المتقون هي دار أولياء الله في ذلك الوقت , و كل أرض سكانها الكفار فهي دار كفر في ذلك الوقت , و كل أرض سكانها الفساق فهي دار فسوق في ذلك الوقت , فإن سكنها غير ما ذكرنا و تبدلت بغيرهم فهي دارهم
و كذلك المسجد إذا تبدل بخمارة أو صار دار فسق أو دار ظلم أو كنيسة يشرك فيها بالله كان بحسب سكانه , و كذلك دار الخمر و الفسوق و نحوها إذا جعلت مسجدا يعبد الله فيه جل وعز كان بحسب ذلك , و كذلك الرجل الصالح يصير فاسقا و الكافر يصير مؤمنا أو المؤمن يصير كافرا أو نحو ذلك , كل بحسب انتقال الأحوال من حال إلى حال و قد قال تعالى: * (و ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة) * الآية نزلت في مكة لما كانت دار كفر و هي ما زالت في نفسها خير أرض الله , و أحب أرض الله إليه , و إنما أراد سكانها. فقد روى الترمذي مرفوعا أنه قال لمكة و هو واقف بالحزورة: " والله إنك لخير أرض الله , و أحب أرض الله إلى الله , و لولا ان قومي أخرجوني منك لما خرجت , و في رواية: " خير أرض الله و أحب أرض الله إلي " , فبين أنها أحب أرض الله إلى الله و رسوله , و كان مقامه بالمدينة و مقام من معه من المؤمنين أفضل من مقامهم بمكة لأجل أنها دار هجرتهم , و لهذا كان الرباط بالثغور أفضل من مجاورة مكة و
¥