المدينة , كما ثبت في الصحيح: " رباط يوم و ليلة في سبيل الله خير من صيام شهر و قيامه , و من مات مرابطا مات مجاهدا , و جرى عليه عمله , و أجرى رزقه من الجنة , و أمن الفتان ".
و في السنن عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: " رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوما فيما سواه من المنازل ". و قال أبو هريرة: لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلي من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود. و لهذا كان أفضل الأرض في حق كل إنسان أرض يكون فيها أطوع لله و رسوله , و هذا يختلف باختلاف الأحوال , و لا تتعين أرض يكون مقام الإنسان فيها أفضل , و إنما يكون الأفضل في حق كل إنسان بحسب التقوى و الطاعة و الخشوع و الخضوع و الحضور , و قد كتب أبو الدرداء إلى سلمان: هلم إلى الأرض المقدسة! فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تقدس أحدا و إنما يقدس العبد عمله. و كان النبي صلى الله عليه وسلم قد آخى بين سلمان و أبي الدرداء. و كان سلمان أفقه من أبي الدرداء في أشياء من جملتها هذا.
و قد قال الله تعالى لموسى عليه السلام: * (سأريكم دار الفاسقين) * و هي الدار التي كان بها أولئك العمالقة , ثم صارت بعد هذا دار المؤمنين , و هي الدار التي دل عليها القرآن من الأرض المقدسة , و أرض مصر التي أورثها الله بني إسرائيل , فأحوال البلاد كأحوال العباد فيكون الرجل تارة مسلما و تارة كافرا , و تارة مؤمنا و تارة منافقا , و تارة برا تقيا و تارة فاسقا , و تارة فاجرا شقيا.
و هكذا المساكن بحسب سكانها , فهجرة الإنسان من مكان الكفر والمعاصي إلى مكان الإيمان و الطاعة كتوبته و انتقاله من الكفر و المعصية إلى الإيمان و الطاعة , و هذا أمر باق إلى يوم القيامة , و الله تعالى قال: * (والذين آمنوا [من بعد] و هاجروا و جاهدوا معكم فأولئك منكم) * [الأنفال: 75]. قالت طائفة من السلف: هذا يدخل فيه من آمن و هاجر و جاهد إلى يوم القيامة , و هكذا قوله تعالى: * (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا و صبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم) * [النحل: 110] يدخل في معناها كل من فتنه الشيطان عن دينه أو أوقعه في معصية ثم هجر السيئات و جاهد نفسه و غيرها من العدو , و جاهد المنافقين بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر , و غير ذلك , و صبر على ما أصابه من قول أو فعل. و الله سبحانه و تعالى أعلم ".
فأقول: هذه الحقائق و الدرر الفرائد من علم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله , يجهلها جهلا تاما أولئك الخطباء و الكتاب و الدكاترة المنكرون لشرع الله * (و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) * , فأمروا الفلسطينيين بالبقاء في أرضهم و حرموا عليهم الهجرة منها , و هم يعلمون أن في ذلك فساد دينهم و دنياهم , و هلاك رجالهم و فضيحة نسائهم , و انحراف فتيانهم و فتياتهم , كما تواترت الأخبار بذلك عنهم بسبب تجبر اليهود عليهم , و كبسهم لدورهم و النساء في فروشهن , إلى غير ذلك من المآسي و المخازي التي يعرفونها , ثم يتجاهلونها تجاهل النعامة الحمقاء للصياد! فيا أسفي عليهم إنهم يجهلون , و يجهلون أنهم يجهلون , كيف لا و هم في القرآن يقرؤون: * (و لو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم) *!
و ليت شعري ماذا يقولون في الفلسطينيين الذين كانوا خرجوا من بلادهم تارة باسم لاجئين , و تارة باسم نازحين , أيقولون فيهم: إنهم كانوا من الآثمين , بزعم أنهم فرغوا أرضهم لليهود؟! بلى. و ماذا يقولون في ملايين الأفغانيين الذين هاجروا من بلدهم إلى (بشاور) مع أن أرضهم لم تكن محتلة من الروس احتلال اليهود لفلسطين؟!
و أخيرا .. ماذا يقولون في البوسنيين الذين لجأوا في هذه الأيام إلى بعض البلاد الإسلامية و منها الأردن , هل يحرمون عليهم أيضا خروجهم , و يقول فيهم أيضا رأس الفتنة: " يأتون إلينا؟ شو بساووا هون؟! ".
إنه يجهل أيضا قوله تعالى: * (و الذين تبوءوا الدار و الإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم , و لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة) * , أم هم كما قال تعالى في بعضهم: * (يحلونه عاما و يحرمونه عاما) *؟!
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا و يأتيك بالأنباء من لم تزود.
¥