ينصرف بلا أجر لكن يكفيه أن صلاته تسقط عنه الطلب وتبرأ ذمته بها. وهذه الأقوال وهذه المسالك يسلكها أهل العلم للجمع والتوفيق بين النصوص, وقد يُسلَك ما هو أقل من ذلك لرفع التعارض. ومنهم من يقول إن الله جل وعلا أخبر نبيه بالخمس والعشرين أولاً ثم زاد تفضلاً منه جل وعلا على عباده المحافظين على الجماعة بالدرجتين.
جاء في من اقتنى كلباً لغير ما استثني أنه ينقص من أجره كل يوم قيراط وفي رواية قيراطان: هل يقال إنه أُخبِر أولاً بالقيراط, ثم أُخبِر بالقيراطين, زيادة في التشديد؟ هذا محتمل, وقد قيل بذلك, وإن قال بعضهم إن نقص القيراط لمن اقتناه في البادية ونقص القيراطين لمن اقتناه في الحاضرة تبعاً للأثر المترتب على هذا الاقتناء والضرر المترتب عليه.
12. المراد من الحديث واضح وهو بيان مزية صلاة الجماعة على صلاة الفذ, وصلاة الفذ وإن كانت صحيحة مسقطة للطب مجزئة وفاضلة بنص هذا الحديث, إلا إنه لا يمنع من إثم من ترك الجماعة لوجوبها, فلا يمنع أن يجتمع في العمل الإثم والأجر لانفكاك الجهة, كمن صلى وبيده خاتم ذهب صلاته صحيحة والأثر المترتب عليها ثابت وهو آثم بلبسه خاتم الذهب أو عمامة الحرير وما أشبه ذلك.
13. من أقوى ما يستدل به من يقول بوجوب صلاة الجماعة عيناً حديث أبي هريرة (والذي نفسي بيده .. ): في هذا الحديث القسم على الأمور المهمة ولو من غير استحلاف, ولا يتعارض هذا مع قول الله جل وعلا (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم) , لأن هذا من الأمور المهمة يحتاج في تأكيده وتثبيته إلى مثل هذا القسم, وقد أمر الله جل وعلا نبيه أن يقسم على البعث في ثلاثة مواضع من كتابه, في يونس وفي سبأ و في التغابن.
14. قوله (لقد هممت): الهم مرتبة من مراتب القصد وهي الخاطر ثم الهاجس ثم حديث النفس ثم الهم ثم العزم. قد يقول قائل.
15. حديث النفس معفو عنه, والخاطر معفو عنه, والهاجس معفو عنه, وماذا عن الهم؟ إذا هم بخير أجر عليه, وإذا هم بسيئة لم تكتب عليه حتى يفعلها.
16. المخالف يقول إن هذا ليس فيه دليل لأنه مجرد هم, والهم لا أثر له, ولذا يقول الناظم في مراتب القصد: مراتب القصد خمسٌ هاجسٌ ذكروا فخاطرٌ فحديث النفس فاستمعا يليه همٌّ فعزمٌ كلها رفعت إلا الأخير ففيه الأخذ قد وقعا).
17. يجاب عن هذا بأن النبي عليه الصلاة والسلام لا يهم إلا بما يجوز له فعله, فهذا الفعل الذي هو التحريق بالنار للمتخلف عن صلاة الجماعة يجوز للنبي عليه الصلاة والسلام فعله, مع أنه أكده بالقسم, فدل على أن ترك الجماعة حرام, إذ لا يتوعد بمثل هذا الوعيد إلا على شيء محرم.
18. قوله (ثم آمر رجلاً فيؤم الناس): قد يقول قائل - وقد قيل - كيف يهم بالتحريق بسبب التخلف عن صلاة الجماعة ثم يتخلف عنها عليه الصلاة والسلام؟ نقول: النبي عليه الصلاة والسلام سوف ينطلق إلى هؤلاء ومعه رجال وحينئذ تقوم بهم صلاة الجماعة.
19. هذا الحديث من أقوى ما يرد به على الذين يقولون بأن صلاة الجماعة ليست واجبة على الأعيان, لأن صلاة الجماعة إذا كان واجبة على الكفاية فقد سقط الوجوب بفعل النبي عليه الصلاة والسلام ومن معه من الصحابة في مسجده, فكيف يبحث عن مثل هؤلاء وقد سقط عنهم الواجب بقيام من يكفي به؟!!.
20. قوله (ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار): يقول بعضهم إنه لو كانت صلاة الجماعة واجبة وهذا التهديد على حقيقته ما تركه عليه الصلاة والسلام, فلما تركه عرفنا أنه عدل عن هذا التهديد, فدل على عدم وجوب صلاة الجماعة.
21. نقول: إنما ترك التحريق معللاًَ ذلك بقوله (لولا ما في البيوت من النساء والذرية) , ثم إنه يكفي في وجوب الجماعة أقل من مثل هذا التهديد, بل قال المخالفون في مسائل كثيرة جداً بالوجوب العيني ولم يرد فيها مثل هذا التهديد.
22. قوله (لو يعلم أحدهم أنه يجد عَرْقاً سميناً): قد يقول قائل إن مثل هذا الكلام لا يقال في حق مسلم صحيح الإسلام, وإنما المنافق هو الذي يبعثه إلى حضور الجماعة مثل هذه الأشياء اليسيرة, فالحديث جاء في حق المنافقين لا في حق صادقي الإيمان والإسلام.
23. نقول: التخلف عن صلاة الجماعة من سمة المنافقين, ولا يكاد ينفك التخلف عن صلاة الجماعة عن صفة النفاق.
24. قوله (عَرْقاً سميناً): العَرْق هو العظم إذا كان عليه لحم.
¥