88. الأصل أن يتراص المصلون, ففي حديث جابر بن سمرة عند أبي داود (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم؟ قلنا: وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال: يتمون الصفوف المقدَّمة ويتراصون في الصف) , فالتراص مطلوب لكن ليس معناه الالتصاق بحيث لا يستطيع الإنسان أن يتنفس ويذهب لب الصلاة الذي هو الخشوع, وليس معناه أننا نتراص في الأقدام ونهمل بقية الجسم, لأن المحاذاة كما تكون بالأقدام تكون أيضاً بالمناكب والأعناق, بمعنى أن الإنسان يأخذ حيزاً من الصف بقدره, لأن بعض الناس إذا كان هناك فرجة عن يمينه وعن يساره مد رجليه, وهذا ليس بمحاذاة ولا تراص, بل النصوص مجتمعة تدل على أن الإنسان يأخذ من الصف حيزاً يكفي بدنه كاملاً.
89. المطلوب هو ألا يُترَك فرج وخلل في الصفوف للشياطين, وألا يتراص ويتضاغط الناس بحيث لا يستطيع الإنسان أن يؤدي الصلاة على الوجه المشروع.
90. قوله (رصوا صفوفكم وقاربوا بينها): ينبغي ألا تترك مسافة بين الصفوف إلا بقدر الحاجة, أي بقدر ما يكفي لموضع سجود المصلي, ولا يزاد على مقدار الحاجة.
91. قوله (وحاذوا بالأعناق): أي أن الأعناق تكون على خط مستقيم, وهذا من المبالغة في تقويم الصفوف, وإلا فالمحاذاة بالأقدام تكفي, لأنه إذا كانت الأقدام على خط واحد صارت الأعناق على خط واحد.
92. مسألة الكرسي في الصف: هنا لا بد من الإخلال بشيء من المحاذاة, لأنه إن حاذى بالأقدام ما حاذى بالمنكب, وإن حاذى بالمنكب تقدمت الأقدام, فما هو المعتبر في ذلك؟ إذا قلنا إنه يحاذيهم بمنكبه فإنه إذا سجد تقدم, وإذا تقدم في السجود وهو في الصف الثاني فقد آذى الصف الأول, وإن تأخر وحاذى بالأقدام فقد آذى الصف المؤخر, فلا بد من معالجة وضعه بما لا يترتب عليه أذىً لأحد, لأن الأذى المتعدي يختلف عن القاصر, ثم بعد ذلك ننظر في أمره, فإن كان يريد أن يسجد على الأرض فإنه يحاذي بالأقدام, وإن كان يستطيع أن يقف في حال الوقوف ولا يستطيع السجود على الأرض فإنه يحاذي بالمناكب.
93. من وظائف الإمام تفقد الصفوف وتقويمها كما تُقَوَّم القداح اقتداءً بالنبي عليه الصلاة والسلام, لكن ما حكم الخطوط الموجودة الآن على الفرش والبلاط؟ لا شك أنها تسهم مساهمة قوية في تعديل الصفوف, فهل يقال إنها مشروعة لأنها تحقق مصلحة ولا يترتب عليها أدنى مفسدة؟ أو يقال إنها محدثة والمسألة مسألة عبادة وقام سببها في عهده عليه الصلاة والسلام ولم يفعلها؟ لا شك في ظهور مصلحة هذه الصفوف ولا أحد ينازع في هذا, وهي مثل مكبر الصوت والإضاءة, فليس فيها بأس إن شاء الله تعالى.
94. أهل العلم يقررون قاعدة (ما قام سببه في عهد النبي عليه الصلاة والسلام ولم يفعله داخل في حيز البدعة) لكن هل السبب الذي قام في عهده عليه الصلاة والسلام في مسجده مساوٍ للسبب القائم في عهدنا من كل وجه؟ وهل إمكان الفعل في عهده عليه الصلاة والسلام مثل إمكان الفعل في عهدنا؟ مسجد النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن كبيراً وتعديل الصفوف فيه متيسر, والسبب قائم في عهده لكن قوته ليست كقوته في عصرنا, وإمكان الفعل في عهده عليه الصلاة والسلام ليس كإمكان الفعل في عهدنا لأن مسجده عليه الصلاة والسلام غير مفروش, فالخطوط في مسجده تزول بوطء الأقدام على الرمل ولا تحقق المصلحة المرجوة منها.
95. لكن كيف تتم تسوية الصفوف في المساجد الكبرى, وتسوية الصفوف من تمام الصلاة,, فهل من المصلحة أن تزال هذه الخطوط أو من المصلحة أن تبقى؟ مصلحة إبقاء هذه الخطوط ظاهرة بلا شك - لكن هذا الكلام قد يجر إلى أمور لا يوافَق عليها القائل – ولا يختلف أحد في أن هذه الخطوط تضبط الصفوف, وفي هذا العصر لا يمكن ضبط الصفوف إلا بهذه الطريقة, بالإضافة إلى تساهل الناس في هذه العصور والناس بحاجة إلى ما يعينهم على إتمام صلاتهم.
96. المسألة اجتهادية, فمن قال بإزالة هذه الخطوط له وجه, ومن قال بإبقائها لأنها تحقق مصلحة عظمى وهي من تمام الصلاة ولا يترتب عليها مفسدة فله وجه.
¥