الجهة الثانية: هي أن الحديثين معارضان بأقوى منهما، وهو حديث جابر المتفق عليه: أن سراقة بن مالك جعشم سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال في تمتعهم المذكور: يارسول الله! ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بل للأبد). وفي رواية في الصحيح، فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى، وقال: (دخلت العمرة في الحج مرتين، لا بل لأبد أبد).
وأجاب المانعون من تضعيف الحديثين المذكورين: فقالوا مايلي:
1 – حديث بلال المذكور سكت عليه أبي داود، ومعلوم من عادته أنه لايسكت إلا عن حديث صالح للاحتجاج.
2 – أنه لم يثبت في الحارث بن بلال جرح، بل قال فيه الحافظ ابن حجر، مقبول.
3 – إعتضاد حديث بلال بن الحارث بما رواه مسلم عن أبي ذر.
4 – أنه حديث أبي ذر يعتضد بمتابعة عثمان في ذلك مما يدل على أن أبا ذر لم يجزم بالخصوصية المذكورة إلا وهو عارف صحة ذلك.
5 – ويعتضد حديث الحارث بن بلال المذكور، بمواظبة الخلفاء الراشدين في زمن أبي بكر وعمر وعثمان على الإفراد، فمواظبتهم على إفراد الحج نحوا أربع وعشرين سنة، يقوي حديث الحارث بن بلال المذكور، وقد رأين الرواية عنهم في صحيح البخاري ومسلم كما سبق.
6 – وأما رد حديث الحارث بن بلال بأنه مخالف لحديث جابر المتفق عليه في سؤال سراقة بن مالك بن جعشم المذكور آنفاً لايستقيم، لانه لامعارضة بين الحديثين لإمكان الجمع بينهما، وإذا أمكن الجمع بين الحديثين وجب الجمع بينهما إجماعاً كما هو مقرر في علم الأصول.
ووجه الجمع بين الحديثين المذكورين: أن حديث بلال بن الحارث وأبي ذر محمولان على أن معنى الخصوصية المذكوره: التحتم والوجوب، ولا ينافي ذلك بقاء جوازه ومشروعيته الا أبد الأبد.
وقوله في حديث جابر: (بل للأبد) محمول على الجواز، وبقاء المشروعية إلى الأبد، فاتفق الحديثان.
قال الشنقيطي – رحمه الله – ماحاصله: الذي يظهر لنا صوابه لنا في حديث (بل للأبد) وحديث الخصوصية بذلك الركب: هو ماختاره العلامة الشيخ تقي الدين أبي العباس ابن تيمية: وهو الجمع المذكور آنفا، ولا شك أن هذا هو مقتضى الصناعة الأصولية والمصطلحية كما لايخفى.
7 - أجاب النووي في شرح المهذب عن قول الإمام أحمد: أين يقع الحارث بن بلال من أحد عشر صحابيا روو الفسخ عنه صلى الله عليه وسلم مانصه: قلت: لامعارضه بينهم وبينه، حتى يقدموا عليه، لأنهم أثبتوا الفسخ للصحابه، ولم يذكروا حكم غيرهم، وقد وافقهم الحارث في إثبات الفسخ للصحابة، ولكنه زاد زياده لاتخالفهم وهي اختصاص الفسخ بهم.
واعلم أن المالكية والشافعية وأصحابهم ادعوا الجمع بين الأحاديث الصحيحة المصرحة بانه صلى الله عليه وسلم كان قارناً، والأحاديث الصحيحة والمصرحة بأنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعاً وكلها ثابته في الصحيحين وغيرهما بحجة الوداع، مع الأحاديث المصرحة، بأنه كان مفردا التي معتمدهم في تفضيل الإفراد، بأنه صلى الله عليه وسلم أحرم أولاً مفرداً ثم بعد ذلك أدخل العمرة على الحج فصار قارنا، فأحاديث الإفراد يراد بها عندهم، أنه هو الذي احرم به أول إحرامه، وأحاديث القران عندهم حق إلا أنه عندهم أدخل العمرة على الحج فصار قارنا، وصيرورته قارنا في آخر الأمر هي معنى أحاديث القران، فلا منافاة، أما الأحاديث الدالة على أنه كان متمتعا، فلا أشكال فيها، لأن السلف يطلقون اسم التمتع على القران، من حيث أن فيه عمرة في أشهر الحج مع الحج، ومما يدل على إن اسم التمتع يطلق على القران، ماأخرجه الشيخان عن سعيد بن المسيب قال: اجتمع عثمان وعلي، وكان عثمان ينهى عن المتعة، فقال علي: ماتريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه، فقال عثمان: دعنا منك، فقال: إني لاأستطيع أن أدعك، فلما رأى ذلك علي أهل بهما جميعا). فهذا يبين أن من جمع بينهما كان عندهم متمتعا وأن هذا هو الذي فعله صلى الله عليه وسلم.
(يتبع)
ـ[أبوسليمان السلفي]ــــــــ[21 - 11 - 08, 08:58 م]ـ
القول الثاني:
قالوا: إن القران أفضل أنواع النسك، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وسفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه والمزني وغيرهم، واستدلوا بأدلة منها:
1 – ماأخرجه الشيخان عن ابن عمر قال: (تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة الى الحج، وأهدى وساق الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج).
2 – مارواه مسلم والبخاري في صحيحيهما، من حديث ابن عمر (أنه قرن الحج الى العمرة، وطاف لهما طوافا واحداً) ثم قال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3 – مارواه مسلم من حديث عمران بن حصين أنه قال: (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حجة وعمرة ثم لم ينه عنه حتى مات، ولم ينزل فيه قرآن يحرمه ... الحديث).
4 – ومنه ماأخرجه الشيخان من حديث انس بن مالك (أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين حج وعمرة)، وفي رواية أنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بهما جميعاً: لبيك عمرة وحجاً، لبيك عمرة وحجاً).
وقد روى عن أنس حديث قران النبي صلى الله عليه وسلم هذا ستة عشر رجلاً كما بينه العلامة بن القيم رحمه الله في زاد المعاد.
5 – ومنها مارواه البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم في وادي العقيق يقول: (أتاني الليلة آتٍ من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة).
والاحاديث بمثل ماذكرنا كثيره
(يتبع)
¥