هذا الحديث ظاهره الصحة مع أن بعض أهل العلم ضعفه قائلاً: إنه مضطرب متناً وسنداً، ومنهم الإمام أحمد وغيره. ولا يخفى أن رواية أبي داود المذكورة ضاهرها الصحة، وهي معتضدة بما رواه الخلاّل عن هشام بن عروه عن أبيه قال: ((أخبرتني أم سلمه قالت: قدمني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن قدم من أهله ليلة المزدلفة، قالت: فرميت بليل ثم مضيت إلى مكة فصليت بها الصبح، ثم رجعت إلى منى)) بواسطة نقل ابن القيم في زاد المعاد (1).
وهذا الحديث فيه سليمان بن أبي داود قال عنه أحمد: ليس بشيء، وقال عثمان بن سعيد: ضعيف.
قال الشنقيطي رحمه الله: رواية سليمان بن أبي داود لا تقل عن أن تعضد الرواية المذكورة قبلها، وسليمان المذكور وثقه ابن حبان، وأثنى عليه أبو زرعه وأبو حاتم وعثمان بن سعيد وجماعة من الحفاظ، كما قاله الحافظ بن حجر. وقد قال الحافظ بن حجر فيه: لا ريب في أنه صدوق.
القول الثاني:
وهو قول مالك وأبي حنيفة رحمهما الله قالا: إن أول وقته يبتدئ من بعد طلوع الشمس وحجتهم هي أن النبي صلى الله عليه وسلم رماها وقت الضحى، وقال: ((خذوا عني مناسككم)).
واحتجوا فيما رواه أصحاب السن عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ((بعث بضعفة أهله فأمرهم ألا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس)) وهذا الحديث صحيح وقال الترمذي حسن صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم. وصححه النووي وابن القيم رحمهما الله.
القول الثالث:
قال به بعض أهل العلم وهو اختيار ابن القيم قالوا: إن أول وقته للضعفة من طلوع الفجر، ولغيرهم من بعد طلوع الشمس، واستدلوا لذلك بحديثين:
الاول: حديث أسماء المتفق عليه وفيه: ((فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها ... الحديث)) وفيه: قالت: يابني إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن في ذلك. ومفهومه أنه لم يأذن للأقوياء الذكور كما ترى.
الثاني: حديث ابن عمر المتفق عليه وفيه: ((أنه كان يقدم ضعفة أهله، وأن منهم من يقدم لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة، وكان ابن عمر يقول: أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم))، فهذا يدل على الترخيص للضعفة في رمي جمرة العقبة بعد الصبح قبل طلوع الشمس كما ترى، ومفهومه أنه لم يرخص لغيرهم في ذلك.
قال الشنقيطي رحمه الله ما حاصله:
إن الذي يقتضي الدليل رجحانه في هذه المسألة: أن الذكور الأقوياء لا يجوز لهم رمي جمرة العقبة إلا بعد طلوع الشمس، وأن الضعفة والنساء لا ينبغي التوقف في جواز رميهم بعد الصبح قبل طلوع الشمس لحديث أسماء وابن عمر المتفق عليهما. وأما رمي الضعفة والنساء قبل طلوع الفجر فهو محل نظر، فحديث عائشة عن أبي داود يقتضي جوازه، وحديث ابن عباس عند أصحاب السنن يقتضي منعه.
والقاعدة المقررة في الأصول هي: أن يجمع بين النصين إن أمكن الجمع، وإلا فالترجيح بينهما، وقد جمعت بينهما جماعة من أهل العلم، فجعلوا لرمي جمرة العقبة وقتين: وقت فضيلة، ووقت جواز، وحملوا حديث ابن عباس على وقت الفضيلة، وحديث عائشة على وقت الجواز، وله وجه من النظر والعلم عند الله تعالى.
واعلم إن وقت رمي جمرة العقبة يمتد إلى آخر نهار يوم النحر، فمن رماها قبل الغروب فقد رماها في وقت لها. وقد أجمع أهل العلم على ذلك كما قال ابن عبد البر.
واختلف أهل العلم في رمي جمرة العقبة ليلاً هل هو جائز أو لا؟ على قولين:
القول الأول:
وهو قول مالك وأصحابه والشافعي وهو قول ابن عمر قالوا: يجوز الرمي ليلاً واستدلوا بأدلة منها:
1 – ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُسأل يوم النحر بمنى فيقول: لا حرج ... الحديث وفيه: فسأله رجل: رميت بعدما أمسيت؟ فقال: لا حرج)). قالوا: واسم المساء يصدق بجزء من الليل.
2 – ماروى مالك في الموطأ عن نافع ((أن ابنة أخ لصفية بنت أبي عبيد نفست بالمزدلفة فتخلفت هي وصفية حتى أتتا من بعد أن غربت الشمس من يوم النحر، فأمرهما عبدالله بن عمر أن ترميا ولم ير عليهما شيئاً)).
قالوا: فهذا دليل على ابن عمر علم من النبي صلى الله عليه وسلم أن الرمي ليلاً جائز.
القول الثاني:
وهو قول أبي حنيفة وإسحاق ومحمد بن المنذر ويعقوب قالوا: لا يجوز رميها ليلاً، ولكن يؤخرها حتى تزول الشمس من الغد، وحجتهم هي جوابهم عن دليل أصحاب القول الأول والذي فيه أن رجلاً رمى بعد ما أمسى فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا حرج)) قالوا: إن مراد السائل بالإمساء يعني به بعد زوال الشمس في آخر النهار قبل الليل، ودليل ذلك قول ابن عباس في أول الحديث: ((كان النبي صلى الله عليه يسأل يوم النحر)) فتصريحه بقوله: يوم النحر يدل على أن السؤال وقع في النهار، والرمي بعد الإمساء وقع في النهار؛ لان المساء يطلق لغة على ما بعد وقت الظهر إلى الليل.
فال ابن حجر: فلم يتعين لكون الرومي المذكور كان بالليل
وأجاب القائلين بجواز الرمي ليلا بأجوبه منها:
1 - أنه ورد ثابتاً في بعض روايات ابن عباس ما هو أعم من يوم النحر فقد أخرجه النسائي عن ابن عباس قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أيام منى ....... ) وهذا الحديث صحيح الإسناد.فقوله: ((أيام منى)) بصيغه الجمع صادق بأكثر من يوم واحد ,فهو صادق بحسب وضع اللغة ببعض أيام التشريق , والسؤال عن الرمي بعد المساء في أيام التشريق لا ينصرف إلا إلى الليل؛ لان الرمي بعد الزوال معلوم فلا يسأل عنه صحابي.
2 - ومنها أن قول النبي صلى الله عليه وسلم ((لا حرج)) بعد قول السائل:) (رميت بعدما أمسيت)) يشمل لفظة نفي الحرج عمن رمى بعدما أمسى , وخصوص سببه بالنهار لا عبرة به؛ لان العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب ولفظ المساء عام لجزء من النهار وجزء من الليل.
(1) انظر زاد المعاد (2/ 249) قلت: وقد أبطله ابن القيم في ثنايا كلامه عنه.
¥