جزاك الله كل خير ... قرأت الموضوع بالصدفة فحمدت الله أن وفقني إليه ... الموضوع في منتهى الأهمية، وتستطيع أنت ورواد المنتدى الكرام جمع نوادر العلم وما خفي من فوائد في بطون الكتب، وجمعها في هذا الموضع، فربما عاش الإنسان ومات من غير أن يقع على الكتاب الذي فيه هذه الفائدة أو تلك، فضلا عن أن كل فائدة قد تفتح بابا من العلم، بل أبوابا من العلوم، ينشط الإنسان إلى البحث فيها بتوسع ... جزاك الله كل خير أنت وكل من ساهم بمعلومة مما قرأ في هذا الموضوع.
ـ[أبو المظفر السِّنَّاري]ــــــــ[09 - 01 - 09, 03:57 م]ـ
[غريبة رقم 4] (الإمام الحافظ أبو محمد المِسْكِي لِفَقْرِه وحاجته يُباع كتابه: " تاريخ مصر " للعطَّارين! يجعلونه قراطيس يبيعون فيها التوابل والأعشاب للناس!!)
قال أبو الدُّرِّ ياقوت الحموي في معجم البلدان [5/ 128 / طبعة دار الفكر] في نهاية ترجمته للإمام الحافظ أبي محمد عبد الله بن خلف بن رافع القاهري المصري المعروف: (بابن بُصَيْلَة) قال: (جمع تاريخا لمصر أجاد فيه، ومات وهو في مُسوداته قد عجز أن يُبَيضَها لفقره!! فَبِيْعَ على العطَّارين لصَرِّ الحوائج؟!! كأنْ لم يكن بمصر مَنْ يُعينه على تبييضه!! ولا ذو همةٍ يشتريه فَيُبَيضَه؟!! والله المستعان ... )
قلتُ: وهنا تُسْكبُ العبرات، وتتابع الحسرات، وتتزاحم الزفرات، وتكثر الأنّات والآهات!!
وقد عُلِمَ: أن فن التاريخ قائم على نقل الأخبار من هنا وهناك، مع الترتيب والتهذيب، وهذا أشق على النفس من إنشاء الكلام وتوليده وارتجاله!! وقد قال ابن عبد ربه في ديباجة العقد الفريد: (اختيار الكلام أصعب مِنْ تأليفه!!)
ولكن: ما حِيلة أبي محمد المِسْكِي الإمام الحافظ وهو يشكو الفقر في كل ساعة؟! ويُعاني مرير العيش والمجاعة، وكأنِّي به وقد رقد الجوع بين صدره وضلوعه، وحال دون نومه وهجوعه، وانقطع به السبيل عن وجْدَانِ مَنْ يسدُّ له حاجته، ويُرَقِّعُ برحمته له أثمال خرقته! فلم يجد لِمَا ألمَّ به مُخْرجا، ولا لِمَا حلَّ بساحته مُعينا أو مُنْقذا! حتى مات وجاء اليوم الذي بِيع فيه فلذة كبده، ودُرَّة عمره؟ أعني: (تاريخه) الذي ضاعت في تسطيره شريف أنفاسه، وغابت فيه طيبات وقته بين دواته وقِرْطاسِه، فكأنما انتدب الأصحاب والأقران لإخراجه فما استطاع!! وذهب ما كان يُؤمِّله من نشْره بين الناس وضاع!! حتى ساقتْه بواعث الأقدار، إلى بيع ثمرة فؤاده إلى كل عطَّار، كيما يجعله قراطيس يحشد فيها عطارته، ويجمع بداخلها توابله وأعشابه! وهكذا يضيع هذا الكنز الثمين في مُخلَّفات حوائج الناس! ويذهب كلُّ عناء كان في تحصيله كما تذهب حرارة الأنفاس!!
وكأني بأبي علي الفالي – بالفاء- وقد كان يملك نسخة من كتاب " الجمهرة " لابن دريد في غاية الجودة، فدعتْه الحاجة إلى بيعها!! فباعها إلى بعضهم وكتب على ظهرها:
أنِستُ بها عشرين حولاً وبعتُها ... لقد طال وجْدِي بعدها وحنيني
وما كان ظني أنني سأبيعها ... ولو خلَّدتْنِي في السجون ديوني
ولكنْ لضعفٍ وافتقارٍ وصِبْيَةٍ ... صغارٍ عليهم تستهلُّ شؤوني
فقلت ولم أملك سوابق عَبْرةٍ ... مقالة مَكْويِّ الفؤاد حزين
وقد تُخْرِجُ الحاجاتُ يا أمَّ مالك ... كرائمَ من ربٍ بهن ضنينُ
والخبر: في وفيات الأعيان [3/ 316] وغيره ...
وهذا المسكي والفالي: كلاهما وجد التفريج عن حاجته، ولو ببيْع شريف مُهْجته!
فَمَنْ لبائس فقير: قد عمل فيه مِبْضَعُ الحاجات كلَّ عمل، واحْتَوَشَتْه وأهلَه غارباتُ الهموم فأصبح منها على وجل! وضرب في دروب الأزقة يلتمس من يشتري منه نفائس كتبه، ويتطلبُ الوقوف على من يبغي نفعه بالمقايضة على حصيلة عمره، من تلك الكتب والأسفار، التي تفرَّقَ شملُه في جمْعها ليل نهار! وكابد في تحصيلها الشدائد والأهوال، وخاض - دون بغيتها - ما عزَّ الخوض فيه على أماثل الرجال! فلم يجد لندائه مجيبا، وما سمع لطرْق باب طالبه صريرا، فصار يتقلب من هم إلى غم، ومن وصب إلى نصب! فلو نطقت الحروف بكل معنى مسطور، لكان كله طرفا مما تكتظُ بمرارته الصدور!! بل لو عَرضَ هذا البائس نفسه في أسواق البيع والشراء، لانْزَوَى عنه الراغبون كما انْزَوتْ الأرضُ عن أعمدة السماء!! ولو ربح بيعه
¥