تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ومنهج البلاذري في كتابه فتوح البلدان يمكن أن نتبينه من خلال طريقته في ترتيب الكتاب ومنهجه في التوثيق. ففي ترتيب مادة الكتاب فإن المؤلف لم يلاحظ العنصر الزمني فقط وإنما لاحظ الموقع الجغرافي للبلد المفتوح، فقد بدأ بالحديث عن فتوح النبي صلى الله عليه وسلم وكانت كلها بالجزيرة العربية، ثم ساق بعد ذلك أخبار ردة العرب بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم بدأ بفتوح الشام وألحق فتوح أرمينية، ومصر، وطرابلس وأفريقية وطنجة والأندلس وجزائر البحر وختم ذلك بالحديث عن أمر القراطيس.

ثم بدأ بذكر فتوح العراق والمشرق فذكر فتوح السواد، والقادسية والمدائن، وهمدان، وأصبهان، والري، وأذربيجان، وطبرستان، وسجستان، وكابل، وخراسان، والسند، وختم الكتاب بالحديث عن أحكام أراضي الخراج، وعن العطاء في عهد عمر، وعن تدوين الديوان ثم أمر الخاتم والنقود والخط، وهي موضوعات في النظم والحضارة.

وإذا تحدث عن فتح بلد يذكر كل أحواله إلى عصره مراعياً في ذلك الترتيب التاريخي، أما منهجه في التوثيق، فهو يجمع الأسانيد كغيره من مؤرخي هذه الفترة فقد قال في أول كتابه موضحاً منهجه في جمع الروايات: (أخبرني جماعة أهل العلم بالحديث والسيرة وفتوح البلدان، سقت حديثهم واختصرته ورددت من بعضه على بعض …) ثم أخذ يسوق أخباره مقدماً لها تارة بقوله: (قالوا) وأحياناً بروايات مفردة منها المسند الموصول، ومنها المقطوع، ومنها ما فيه الرواية عن المجاهيل الذين لم يسمهم، وقد يروي عن مسمين لكن أعيانهم مجهولة، فنجد في أسانيده مثل قوله: (عن أشياخ من أهل الطائف). (حدثني أشياخ من أهل اليمامة)، (سمعت مشايخ من البصريين)، (عن مشايخ من أهل اليمن) (عن مشايخ من أهل الشام) (حدثني فلان عن مشائخ أدركهم) (حدثني شيخ من أهل حمص) (حدثني جماعة أهل العلم بأمر الشام، بعض أهل منبج، ديار ربيعة، أهل الرقة، شيخ من أهل الحيرة، شيخ من أهل واسط).

وبعض الأخبار يوردها من معلوماته ويسبقها بقوله: (قال) وبعضها نقلاً من كتب من سبقه فيسند لهم مباشرة السند وهذا يعرف في مصطلح الحديث بالمعلق، فقد علق عن هشام الكلبي، وروى عنه بواسطة ابنه عباس، وعلق عن أبي مخنف، وروى عنه بواسطة، وعلق عن الواقدي، وروى عنه بواسطة محمد بن سعد وغيره، وعلق أيضاً عن مالك بن أنس. وعلق عن أبي اليقظان النسابة، ويروي عن محمد بن سعد بالعلو والنزول، فمرة بصيغة التحديث ومرة بواسطة، وروى عن موسى بن عقبة صاحب المغازي بواسطة، وروى عن المدائني مباشرة مصرحاً بالتحديث أحياناً، وقد لا يصرح بالتحديث.

ويذكر الروايات المتعددة ويتركها بدون ترجيح، وأحياناً يرجح، وعباراته في نقد الروايات وترجيح بعضها على بعض مقتضبة تشبه في ذلك عبارات الواقدي، وابن سعد، فمن عباراته في الترجيح (والأول أثبت) (وذلك أثبت) والأول أصح وأثبت، ورواية الواقدي أثبت. والخبر الأول أثبت هذه الأخبار.

ومن عباراته في النقد: وليس ذلك يثبت، وهذا غلط. كما أنه يضعف بعض الروايات ولكن بطريقة مباشرة فيوردها بصيغة التضعيف كأن يقول: (ويقال)، و (قد روي) و (قال بعض الرواة)، و (زعم الهيثم بن عدي). كما أنه يذكر أقوال الفقهاء في المباحث الفقهية بعضها يسنده وبعضها الآخر غير مسند.

ومن هذا يتضح أن البلاذري لم يكن يلتزم الإسناد دائماً، وإذا أسند فلا ينتقي في الرجال بل يحدث عن كل من وجد عنده معلومات تهمه في موضوع بحثه، وهذا إن كان في ميزان علماء الحديث مما تترك رواية الرجل لأجله، إلا أنه في ميزان الدراسة التاريخية قد يتساهل أحياناً، والبلاذري قد أبان كثيراً من مصادر معلوماته، وحاول الاتصال بالأشخاص القريبين من الأحداث فكان يأتي لأهل كل بلد ويسألهم عن كيفية فتح بلادهم فنجده يحدث عن مشائخهم وكبار السن فيهم.

والبلاذري بهذا الكتاب الذي خصصه للفتوح – وإن لم يخله في الحقيقة من الفوائد عن نشأة بعض المدن وخططها وعن موضوعات في النظم الإسلامية والموضوعات الحضارية – يعبر عن رسالة الأمة الإسلامية، ووظيفتها الأساسية وهي الدعوة والجهاد في سبيل الله.

وبالنسبة للمنهج التاريخي فإن كتاب البلاذري في فتوح البلدان يعطي صورة عن المرحلة المنهجية التي وصلت لها كتابات المؤرخين المسلمين في القرن الثالث الهجري، من الاعتماد على الإسناد، والنظرة الموضوعية للأحداث، والإيجاز في التعبير عن المراد، وعدم الاستطراد، والبعد عن عبارات التهويل وأسلوب القصص، وإيراد الروايات المتعددة عن الخبر الواحد مع نقدها، أو محاولة الجمع بينهما أحياناً.

منهج كتابة التاريخ الإسلامي، للدكتور محمد بن صامل السلمي، ص 477


للموضوع بقيه

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير