تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

في أنَّ كثرةَ الاختصاراتِ الموضوعة في العلوم مخلةٌ بالتعليم:

ذهبَ كثيرٌ من المتأخرينَ إلى اختصار الطُّرقِ، والأَنحاءِ في العلوم، يولعونَ بها، ويدوِّنونَ منها برنامجًا مختصرًا في كل علمٍ، يشتملُ على حصرِ مسائله، وأدلَّتها، باختصارٍ في الألفاظِ، وحشوِ القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفنِّ، فصار ذلك مُخِلاًّ بالبلاغةِ، وعسيرًا على الفهم. وربما عمدوا إلى الكُتُبِ الأمهاتِ المطوَّلة في الفنونِ للتفسير والبيان؛ فاختصروها تقريبًا للحفْظِ، كما فعله ابنُ الحاجبِ في ”الفقه”، و ”أصول الفقه”، وابن مالكٍ في ”العربيَّة”، والخونجيُّ في ”المنطق”، وأمثالُهُم.

وهو فسادٌ في التعليم، وفيه إخلالٌ بالتحصيلِ؛ وذلك لأنَّ فيه تخليطًا على المبتدئ، بإلقاءِ الغاياتِ من العلمِ عليه، وهو لم يستعدَّ لقبولِها بَعْدُ، وهو من سوءِ التعليمِ كما سيأتي. ثم فيه مع ذلكَ شغلٌ كبيرٌ على المتعلِّمِ، بتتبّعِ ألفاظِ الاختصارِ العويصةِ للفهمِ، بتزاحمِ المعاني عليها، وصعوبة استخراجِ المسائلِ من بينها؛ لأنَّ ألفاظَ المختصراتِ نجدُها لأجلِ ذلكَ صعبةً عويصةً، فينقطع في فهمها حظٌّ صالحٌ عن الوقت، ثم بعد ذلك كلِّهِ فالملَكَةُ الحاصِلة من التعليمِ في تلكَ المختصرات، إذا تمَّ على سدَادِه، ولم تعقبْهُ آفةٌ، فهي ملكةٌ قاصرة عن الملَكاتِ التي تحصُلُ من الموضوعات البسيطة المطوَّلة، لكثرة ما يقع في تلك من التَّكرارِ، والإحالةِ، المفيدَيْن لحصولِ المَلكةِ التامَّةِ. وإذا اقتُصِر على التَّكرار قصَّرت الملَكةُ لقلَّتِهِ؛ كشأنِ هذهِ الموضوعاتِ المختَصَرَةِ، فقصدوا إلى تسهيلِ الحفظِ على المتعلِّمين، فأركبوهم صَعبًا، يقطَعُهُم عن تحصيل الملَكاتِ النَّافِعَةِ، وتمكُّنِها) أ. هـ

وعلَّق أ. د: عمر بن سليمان الأشقر ـ حَفِظَهُ اللَّه ـ في: ”تاريخ الفقه الإسلامي” (ص 151) على كلام ابن خلدون بقوله:

(ولك أن ترجع إلى المختصرات في فقه المذاهب؛ لترى مصداق هذا الذي ذكره ابن خلدون مثل:

كتاب: ”مختصر خليل” في فقه المالكيّة،

وكتاب: ”المنهاج” لزكريا الأنصاري في فقه الشافعيّة،

وكتاب: ”الكنز” للنسفي في فقه الأحناف،

وكتاب: ”زاد المستقنع” لشرف الدين أبي النجا في فقه الحنابلة) أ. هـ

وقال العلامة: محمد الحجوي الثعالبي ت (1376هـ) في: ”الفكر السَّامي” (4/ 457 ـ 460):

(ثم جاء خليل في أواسط [القرن] الثامن واختصره [أي: ”مختصر البراذعي لـ: (المدونة) ”]. وهناك بلغ الاختصار غايته؛ لأنَّ ”مختصر خليل” مختصرُ مختصرِ المختصر، وإنْ أخل بالفصاحة، وكاد جل عباراته أنْ يكون لغزًا، وفكرتهم هذه مبنية على مقصدين؛ وهما:

تقليل الألفاظ تيسيرًا على الحفظ.

وجمع ما هو في كتب المذهب من الفروع، ليكون أجمع للمسائل.

وكلٌّ منها له مقصدٌ حسنٌ، لولا حصول المبالغة في الاختصار، التي نشأت عنها أضرار.

فمنها: أنَّ اللغة لنا فيه مترادفات متفاوتة المعنى، وفيها: المشترك، والتراكيب ذات الوجهين، والوجوه، مع حدوث لغة ثانية، وهي: مصطلحات شرعيَّة، وعربيَّة، فأصبحت الجملة الواحدة تحتمل احتمالات، فلما اختصروا أحالوا أشياء عما قُصِدَ بها، وتغيَّرت مسائل عن موضعها.

ومنها: أنَّهم لما أغرقوا في الاختصار، صار لفظ المتن مغلقًا، لا يُفْهم إلا بواسطة ”الشُّرَّاح”، أو ”الشروح”، و ”الحواشي”، ففات المقصود الذي لأجله وقع الاختصار، وهو جمعُ الأسفارِ في سفرٍ واحدٍ، وتقريبُ المسافةِ، وتخفيفُ المشاقِّ، وتكثيرُ العِلْمِ، وتقليلُ الزَّمَنِ، بل انعكس الأمرُ، إذ كثرت المشاق في فتح الأغلاق، وضاع الزَّمَنُ من غيْرِ ثمنٍ.

أمَّا الاطلاع من ”كتابٍ”، و ”سنةٍ”، و ”إجماعٍ”، و ”قياسٍ”، و ”علةِ الحكمِ” التي لأجله شُرِعَ، وفهم أسرار الفقه، وما هناك من أفكار السلف، وكيفيّة استنباطهم، ومداركهم، فكلُّ ذلك فاتنا بفواتِ كتبِ الأقدمين الحلوية لذلك.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير