وفي التنزيل الحكيم قوله تعالى " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا " الآية، وقد استدل أبو محمد ابن حزم ـ رحمه الله ـ بهذه الاية على أنه " لا سر في الدين عند أحد "، كما في مقدمة محلاّه.
وربما رأيت الرجل يشار إليه بالبنان، يذهل عن سياسة العلم أحياناً، ومما يناسب المقام ما ذكره الخطيب عن أبي بكر محمد بن داود [ت297هـ]: وهو ابن داود بن علي شيخ الظاهرية، وكان فقيها أديبا شاعرا ظريفا. فعن الخضري قال: (كنت جالساً عند أبي بكر محمد بن داود، فجاءته امرأةٌ فقالت له: ما تقول في رجلٍ له زوجةٌ؛ لا هو ممسكها ولا هو مطلقها؟. فقال أبو بكر: اختلف أهل العلم في ذلك، فقال قائلون: تؤمر بالصبر والاحتساب، وتبعث على التطلب والاكتساب، وقال قائلون: يؤمر بالانفاق، وإلا حمل على الطلاق، فلم تفهم المرأة قوله، فأعادت مسألتها وقالت: رجلٌ له زوجةٌ؛ لا هو ممسكها، ولا مطلقها، فقال لها: يا هذه قد أجبتك عن مسألتك، وأرشدتك إلى طلبك، ولستُ بسلطانٍ فأمضي، ولا قاض فاقضي، ولا زوج فأُرضي، فانصرفت المرأة ولم تفهم جوابه)!
قلت: سبحانَ الله، ألم يكن الأولى بهذا الفقيه الحافظ ـ رحمه الله ـ، أن يجيبها بما تفهم، ويختزل عليها خلافاً فروعياً، لا تحتاجه، ولا تفهمه!
قلتُ: ومن أحسن الناس سياسةً للعلم بعد الأنبياء، الرعيلُ الأول من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وورثتهم على ذلك، فإن بني إسرائيلَ كانت (تسوسهم) الأنبياء، وهؤلاء ورثتهم من بعدُ.
ومن أمثلة حسن السياسة، ما ذكر في السيَر، عن أبي بكر الهذلي أن يزيدَ بن المهلّب قال: (أدعوكم إلى سنةِ عمر بن عبد العزيز)، فخطب الحسن البصري وقال: (اللهم اصرع يزيد بن المهلب صرعةً تجعله نكالاً، يا عجباً لفاسقٍ غيَّر برهةً من دهره، ينتهك المحارم، يأكل معهم ما أكلوا، ويقتل من قتلوا، حتى إذا منع شيئا قال: " إني غضبان فاغضبوا، فنصبَ قصباً، عليها خرقٌ فاتبعه رِجْرِجَةٌ ورَعَاعٌ، يقول: أطلب بسنة عمر، إن من سنة عمر؛ أن توضع رجلاه في القيد، ثم يوضع حيث وضعه عمر)
قال الذهبي: (قتل عن تسع وأربعين سنة، ولقد قاتل قتالا عظيماً، وتفللت جموعه فما زال يحمل بنفسه في الألوف لا لجهاد، بل شجاعة وحمية، حتى ذاق حمامه، نعوذ بالله من هذه القتلة الجاهلية) (السير 4/ 506)
قلتُ: جاء في اللسان: الرِّجْرِجَةُ بالكسر، بقية الماء في الحوض الكدرة، المختلطة بالطين، وفي حديث ابن مسعود (لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس كرجرجة الماء الخبيث) الرجرجة بكسر الراءين، بقية الماء الكدر في الحوض المختلطة بالطين ولا ينتفع بها. اهـ (لسان العرب / مادة رجرج)
هذا طرَفٌ مما مرَّ بالخاطر، أعلمُ أنه فطيرٌ ليس بالخمير، وإنما أوردته (طازجاً)؛ لأستفيدَ من تعقيب الإخوة الكرام.
والسلام
ـ[خالد الوايلي]ــــــــ[08 - 06 - 03, 02:49 ص]ـ
الشيخ الموفق بإذن الله تعالى
أبو عبد الله النجدي
بارك الله بك وبارك في عمرك - آمين-
مقالة تكتب بحروف الذهب
ـ[أبو عبدالله النجدي]ــــــــ[14 - 06 - 03, 09:19 ص]ـ
أخي خالد .....
وفيك بارك الله، وشكر لك حسن الجواب
ـ[ابن عبد البر]ــــــــ[14 - 06 - 03, 03:19 م]ـ
أسأل المولى أن يبارك فيكم وفي علمكم .. أيها النجدي المبارك ..
ووالله إن كتاباتك لتستهويني كثيراً ..
=======
وهنا إشارة من قليل البضاعة ضعيف الطاعة ,
وهي أن ما ذكرتم شيخنا الفاضل يرتكز على قواعد من العلم متينة ,,
وأسس من الفقه رصينة .. ولا يناله إلا موفق عامل بعلمه ,
وأما منبع ذلك فقه هو تعلم الفقه والغوص في غماره ..
وتأمل أسرار الشريعة وحكمها ..
فهو نابع من الفقه باللأحكام مع فقه للواقع الذي يعيشه ..
ففقه الواقع لا يخفاكم أثره في تغير مجرى الفتوى ..
وقد كان أحد كبار العلماء الأجلاء يلقي محاضرة في إحدى المدن
فسأل أحدهم عن موقفنا تجاه فتنة العراق ..
فقال: يهود يضربو رافضة .. أو نحواً منها فاستنكر الجميع عامة وطلبة علم هذا الكلام ..
ثم بعدها أتاه بعض طلبة العلم وأوضح هذه الجزئية له فأخرج بعدها بياناً سارت به الركبان .. (ولا يقلل هذا من فقه هذا العالم النحرير ومكاته .. )
والقراءة للعلماء النابغين من أمثال شيخ الإسلام وابن القيم وغيرهم ممن لايمكن حصرهم لها أثر كبير في سياسة العلم .. والله أعلم ,
لم أعد لهذه الكلمة في الحقيقة لكن كما قال شيخنا الفاضل طَرَتْ فَجَرَتْ .. وما أحوجنا لمثل هذه المشاركات المنهجية ..
ـ[طالب النصح]ــــــــ[21 - 07 - 03, 03:14 ص]ـ
قلت فأبدعت ... ونصحت فأخلصت و لا أزكي على الله أحداً
يا فضيلة الشيخ ألا ترى أن قصة أبي بكر محمد بن داود هي من سياسة العلم وليست خارجة عنه ..
فإنها - لازلت مشمولاً بفضل الله وتوفيقه - ظاهرة في ذلك؛ آمل - رفع الله قدركم في الدارين آمين - أن تعيدوا النظر فيها ..
وإن مما نعانيه في سياسة العلم ... عدم التفريق بين العالم والمفتي والحاكم (القاضي) الشرعي ... وهذا ما لفت إليه النظر أبوبكر محمد بن داود بن علي الظاهري .. رحمه الله
ولك مني حب وتقدير وعرفان بالجميل
¥