وأشير عند وصولي إلى المسائل المشتهرة بين الفريقين إلى بعض المسائل التي تتفرع عنها لتكون عونًا للناظر .. " (38).
وقد استفاد أبو المظفر من أبي زيد الدبوسي، ونقل عنه عدداً من المباحث، وأورد عليه وردَّ عليه في مباحث أخرى (39).
وكتاب القواطع امتاز بتوسطه بين طريقتين: طريقة الفقهاء، وطريقة المتكلمين.
فهو لم يجرد كتابه عن الفروع الفقهية، بل أورد فيه عددًا من المسائل الفقهية، كما أنه حرر المسائل وأصَّل القواعد على أدلة الكتاب والسنة وما عليه سلف هذه الأمة، وقد أكثر من النقل عن الإمام الشافعي خاصة (40) وعن غيره من أئمة أهل السنة.
وقال ابن السبكي (41) عن هذا الكتاب:
لا يوجد كتاب في أصول الفقه أحسن من كتاب القواطع ولا أجمع، كما لا أعرف فيه أجل ولا أفحل من برهان إمام الحرمين (42). فبينهما في الحسن عموم وخصوص" (43).
أما كتاب "المستصفى" للغزالي فقد قام باختصاره وتهذيبه الإمام الموفق ابن قدامة، وذلك في كتاب "روضة الناظر وجنة المناظر"، وسيأتي الكلام على ذلك لاحقًا" (44).
وخلاصة القول:
أن هذه المرحلة اتسمت بغزارة المادة الأصولية المبنية على الأحاديث النبوية والآثار المروية عن الصحابة والتابعين، وذلك يمثله بوضوح كتاب ابن عبد البر وكتاب الخطيب البغدادي، كما أنَّ هذه المرحلة تميزت بالاتجاه الحديثي المتمثل بذكر المرويات بأسانيدها، ولم يكن هذا الاتجاه قاصراً على الرواية والتحديث، بل انضم إلى ذلك الاستنباط والفهم، وإثبات القياس والاجتهاد، والدعوة إلى إعمال الرأي في حدود الشرع، والتحذير من التسرع في الفتيا وإصدار الأحكام، والتنبيه على فضل العلم وأدب أهله.
وكانت هذه المرحلة امتداداً للمرحلة السابقة التي تمثلت في كتاب "الرسالة" للشافعي، فقد استفاد ابن عبد البر والخطيب البغدادي وابن السمعاني استفادة مباشرة واضحة من آثار الشافعي.
أما كتاب "الروضة" لابن قدامة فإنه يُمَثِّل نقلةً جديدة تتجلى في التأثر بمنهج المتكلمين مع المحافظة على التصور السلفي إجمالاً، ولعل السبب في ذلك هو كثرة كتب المتكلمين الأصوليين (45) في تلك الفترة وانتشارها مع إتقان ترتيبها وحسن عرضها (46).
المرحلة الثالثة:
بداية هذه المرحلة هي بداية القرن الثامن، وتنتهي بنهاية القرن العاشر تقريبًا، وقد برز في هذه المرحلة –في أوائلها- إمامان جليلان. حفظ الله بمهما منهج أهل السنة والجماعة، وجدَّد الله بهما هذا الدين.
إنهما شيخ الإسلام ابن تيمية (47) وتلميذه ابن قيم الجوزية (48).
وقد وافق عصر هذين الإمامين اتساع جهود المتكلمين الأصولية (49) فقد توافرت كتبهم، المختصرات منها والمطولات، وتداول الناس هذه الكتب، وعمت مطالعتها ودراستها (50)، ويمكن تلخيص دور هذين الإمامين إزاء هذا التيار في جانبين:
الجانب الأول: تأصيل قواعد أهل السنة والجماعة، وتثبيت دعائم منهج السلف الصالح بالحجة البالغة والبرهان الساطع، والرجوع في كل ذلك إلى نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وما دل عليه العقل الصريح والفطرة السليمة، وما ورد عن الصحابة والتابعين. وعدم الالتفات إلى مناهج المناطقة ومسالك الفلاسفة.
إن القضايا والمطالب التي اشتغل ابن تيمية بإظهارها وبيانها أو ابن القيم (51) إنما هي قضايا كلية ومطالب أساسية، عليها تبنى مسائل كثيرة وفروع عديدة.
فمن الأمثلة على ذلك (52):
أ- وجوب اتباع الكتاب والسنة اإتباعاً عاماً، وأنه لا تجوز معارضتهما برأي أو عمل أو ذوق أو غير ذلك، بل يجب أن يُجعلاهما الأصل، فما وافقهما قُبِلَ، وما خالفهما رُدَّ.
ب- أن الكتاب والسنة وإجماع الأمة أصول معصومة، تهدي إلى الحق، لا يقع بينها التعارض، وأن القياس الصحيح موافق للنص أيضًا.
ج- أن للعلماء في اجتهاداتهم أسباباً وأعذاراً، والواجب في المسائل الاجتهادية بيان الحق بالعلم والعدل.
د- أن أحكام الشريعة مشروطة بالقدرة والاستطاعة، إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
هـ- أن الرسول صلى الله عليه وسلم أتم بيان هذا الدين، فالدين كامل والنصوص محيطة بأفعال المكلفين، وأن رسالته صلى الله عليه وسلم عامة للثقلين وهي ضرورية للخلق.
الجانب الثاني: الرد على الباطل وكشف زيفه، وبيان بطلانه، وذلك بعد الوقوف على مآخذه لدى أهله؛ لمقارعة الحجة بالحجة.
¥