كل ذلك بأدلة المنقول والمعقول، مع النصيحة والبيان، فكان هذا الصنيع تصحيحاً للخطأ وتقويماً للاعوجاج، وتوضيحاً للحق ودعوة إليه، وفضحًا للباطل وتحذيراً منه.
ومن الأمثلة على ذلك (53):
أ- مسألة التحسين والتقبيح العقليين، وبيان طرفي الانحراف في هذه المسألة.
ب- جناية التأويل وخطورته، وبيان الصحيح منه والباطل.
ج- الرد على من زعم أن النصوص تفيد الظن ولا تفيد اليقين، وذكر الأدلة على ذلك.
د- درء التعارض بين العقل والنقل، وإقامة الأدلة والشواهد على ذلك.
إن جهود ابن تيمية وابن القيم وآثارهما الجليلة امتداد لآثار من سبقهم من أئمة أهل السنة والجماعة، فقد استفاد هذان الإمامان من جهود ابن عبد البر والخطيب البغدادي وابن السمعاني، ومن قبلهم الإمام الشافعي وغير هؤلاء من الأئمة. يضاف إلى ذلك أن جهود هذين الإمامين تمثل دراسة تقويمية لكتب المتكلمين الأصولية، ونقداً لقواعد المتكلمين ومناهجهم، وبيانًا لما لها وعليها انطلاقاً من منهج السلف الصالح.
وإذا أردنا الوقوف على آثار هذين الإمامين في أصول الفقه فإنه من الصعوبة الإحاطة بهذه الآثار على وجه الدقة، ذلك لضخامة تراثهم وسعة امتداده من جهة، ومن جهة أخرى فإن تآليهما تتصف بالاستطراد والتشعب، فما أن يبتدئ الواحد منهما بموضوع حتى يُفرِّغ الكلام على غيره، وهذا يجرُّه إلى غير وهكذا، ولعل صفة الاستطراد عند ابن تيمية أظهر وأقوى منها بالنسبة إلى ابن القيم.
لذا حسن جمع ما لهذين الإمامين من أبحاث أصولية في قائمتين خاصتين (54) وفي هذا المقام يمكن الإشارة إلى كتابين مستقلين في أصول الفقه لهذين الإمامين، الأول كتاب "المسودة" لآل تيمية، والثاني كتاب "إعلام الموقعين" لابن القيم، على أن الأخير من هذين الكتابين ليس خاصاً في أصول الفقه إلا أن معظم مباحثه تتعلق بالأصول.
أما كتاب "المسودة" فإنه في الأصل نقول (55) جمعها مجد الدين عبد السلام (56) ابن تيمية الحراني، جدُّ شيخ الإسلام تقي الدين أحمد ابن تيمية، وتركها دون أن يبيضها، فعلق على بعضها ابنه شهاب الدين عبد الحليم (57)، والد شيخ الإسلام، وتركها أيضاً مسودة دون أن يبيضها، ثم جاء شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية فعلق على بعضها وتركها أيضًا مسودة دون أن يبيضها، ثم قيض الله لهذه المسودات أحد تلاميذ (58) شيخ الإسلام ابن تيمية فجمعها ورتبها وبيضها وميز بعضها عن بعض، فما كان لشيخه قال فيه: "قال شيخنا"، وما كان لوالد شيخه قال فيه: "قال والد شيخنا"، وما كان لصاحب الأصل مجد الدين تركه مهملاً (59).
والكتاب ضم جملة من النقول عن أئمة الحنابلة الأصوليين، وهذا هو الغالب فيه، لذا فهو مجمع لكثير من أقوال الحنابلة، ومرجع لتحرير مذهب الإمام أحمد في عدد من المسائل الأصولية. والكتاب بحاجة إلى تنقيح وتهذيب لوجود تكرار في بعض مباحثه، وإلى ترتيب، إذ هو عبارة عن مسائل وفصول لا يجمعها باب ولا يضمها عنوان، فالكتاب إذن يحتاج إلى فهرسة دقيقة، إضافة إلى أن الكتاب لا يطمأن إليه في نسبة ما فيه إلى مؤلفيه؛ إذ تركوه دون تحرير ولا تحقيق، فهو مسودة (60).
أما كتاب "إعلام الموقعين" فقد ذكر فيه ابن القيم مباحث أصولية مهمة أفاض الكلام عليها. فمن هذه المباحث (61):
* القياس.
* الاستصحاب.
* التقليد.
* الزيادة على النص.
* قول الصحابي.
* الفتوى.
* دلالة الألفاظ على الظاهر.
* سد الذرائع وتحريم الحيل.
* ليس في الشريعة ما يخالف القياس.
وهناك مباحث أخرى نفسية ازدان بها هذا الكتاب. فمن ذلك:
* ذكر أئمة الفتيا من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
* شرح خطاب عمر رضي الله عنه في القضاء.
* أنواع الرأي المحمود والمذموم.
* مسائل في الطلاق والأيمان.
* فتاوى النبي صلى الله عليه وسلم في العقيدة وفي الأبواب الفقهية.
* أمثلة على الحيل المباحة والباطلة.
* أمثلة على رد المحكم بالمتشابه.
* أمثلة على رد السنن بظاهر القرآن.
وقد امتاز هذا الكتاب بكثرة الأمثلة الفقهية على عدد من المسائل الأصولية (62)، وامتاز أيضًا ببيان حكمة التشريع ومقاصد الشريعة (63)، إضافة إلى حسن البيان وجمال الأسلوب، كما أن الكتاب جامع لكثير من الأحاديث النبوية، والآثار المروية عن الصحابة والتابعين (64)، وفيه نقول مطولة مهمة عن بعض الأئمة (65).
¥