أدلة القول الثالث: استدل من يفرق بين القياس الجلي والخفي بكون القياس الجلي يوجب الحكم قطعاً فلا يترتب عليه أي محظور بخلاف القياس الخفي.
ويجاب عنه بأنه لا يشترط _ كما سبق _ كون المستند قطعياً.
الترجيح: الراجح في هذه المسألة هو قول الجمهور لما ذكروه من أدلة والله أعلم.
المسألة السادسة: اشتراط انقراض العصر في الإجماع:
المقصود بانقراض العصر أي: (موت جميع المجتهدين الذين أجمعوا على حكم مسألة شرعية)
فهل يشترط لانعقاد الإجماع أن يموت جميع المجتهدين الذين أجمعوا على المسألة أو أنه ينعقد الإجماع مباشرة بعد اتفاقهم فلا يجوز بعد ذلك لهم ولا لغيرهم المخالفة؟ اختلف في هذه المسألة على أقوال:
القول الأول: يشترط انقراض العصر لصحة انعقاد الإجماع فيجوز رجوع المجتهد عن قوله قبل موتهم ولا تحرم في حقه المخالفة وبهذا قال أحمد في ظاهر كلامه واختاره ابن فورك وسليم الرازي من الشافعية ونسبه السرخسي للشافعي.
القول الثاني: لا يشترط انقراض العصر في الإجماع مطلقاً وهو قول الجمهور وأكثر الأصوليين والفقهاء والمتكلمين وهو الرواية الثانية عن الإمام أحمد.
القول الثالث: إذا كان مستند الإجماع ظنياً كالقياس وخبر الآحاد فلا يكون حجة حتى يطول الزمان وتتكرر الواقعة ولو طال الزمان ولم تتكرر فلا أثر له وبه قال الجويني.
القول الرابع: انقراض العصر شرطٌ في الإجماع إذا كان الإجماع سكوتياً ولا يشترط في الإجماع القولي أو الفعلي وهو قول الآمدي وحكي عن أبي علي الجبائي من المعتزلة و هوقول أبي منصور البغدادي و ذكره الجويني عن أبي اسحق الأسفراييني من الشافعية. (وسيأتي بيان ذلك في الإجماع السكوتي)
القول الخامس: أن انقراض العصر شرطٌ في الإجماع إن بقي من المجمعين عدد التواتر أما إن نقصوا عن عدد التواتر فلا عبرة ببقائهم حكاه بعض الشافعية.
القول السادس: أن انقراض العصر شرطٌ في إجماع الصحابة فقط.
أدلة الأقوال: (سوف نكتفي بذكر أدلة القولين الأولين فقط لأهميتهما وأما بقية الأقوال فوجه احتجاج أصحابها ظاهر من القول):
أدلة القول الأول: استدل أصحاب القول الأول بأدلة منها:
1 – قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس}
وجه الاستدلال: أن الله _ تبارك وتعالى _ جعلهم حجة على الناس، ومن جعل إجماعهم مانعاً لهم من الرجوع فقد جعلهم حجة على أنفسهم.
ويجاب عنه بجوابين:
الأول: أن المراد بجعلهم شهداء على الناس في يوم القيامة بإبلاغ الأنبياء إليهم فلا يكون ذلك حجة فيما نحن فيه.
الثاني: أن قبول شهادتهم على أنفسهم ربما يكون أولى من قبوله على غيرهم لعدم التهمة ويكون هذا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى.
2 – استدلوا بالآثار عن الصحابة ومنها:
أ - عن عبيدة السلماني قال: قال علي بن أبي طالب 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ -: " استشارني عمر بن الخطاب 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - في بيع أمهات الأولاد فرأيت أنا وهو أنها عتيقة، فقضى بها عمر حياته وعثمان _ رضي الله عنهما _ بعده فلما وليت أنا رأيت أن أرقهن "، قال: فأخبرني محمد بن سيرين أنه سأل عبيدة عن ذلك فقال: أيهما أحبُّ إليك؟ قال: " رأي عمر وعلي _ رضي الله عنهما _ جميعاً أحب إلي من رأي علي 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - حين أدرك الاختلاف " أخرجه البيهقي في سننه وعبد الرزاق وابن أبي شيبة في مصنفيهما.
وقول عبيدة دليل سبق الإجماع.
ب - أن عمر خالف ما كان عليه أبو بكر والصحابة في زمانه من التسوية في القسم وأقره الصحابة أيضا على ذلك أخرجه أحمد في الزهد.
ج - أن عمر حدَّ شارب الخمر ثمانين وخالف ما كان أبو بكر والصحابة عليه من الحدّ أربعين أخرجه مسلم في صحيحه.
وأجيب عن هذه الآثار بما يلي:
أما أثر علي 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - في بيع أمهات الأولاد فيجاب عنه بجوابين:
الأول: أن علياً 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - لم يخالف الإجماع وإنما هو قوله وقول عمر 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - فقط ولذا قال: " اتفق رأيي ورأي عمر " ولم يقل رأي الجميع فهو خالف قول عمر 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - فقط وقد خالف عمر أيضاً ابن عباس وابن الزبير _ رضي الله عنهم _ كما عند عبد الرزاق في المصنف فدل ذلك على أنهم لم يجمعوا.
¥